لم يترك النظام العسكري في مصر مجالاً عاماً أو خاصاً إلا وأحكم قبضته عليه، من الأرض والبحر، إلى الهواء والموانئ، وصولاً اليوم إلى ما تبقى من حرمة الموت. فبعد أن طارد الفقراء أحياءً بالضرائب والغرامات والرسوم، يبدو أنه قرر ملاحقتهم موتى، عبر تحويل الجنازات والمقابر إلى مشروع استثماري جديد، يُدفع فيه الثمن «حيّاً أو ميتاً».
فبحسب مصادر حكومية مطلعة، تتجه الحكومة المصرية إلى خصخصة قطاع الجبانات والمقابر وخدمات الجنائز ودفن الموتى، من خلال إسناد إدارة وتشغيل هذا الملف الحساس إلى شركات من القطاع الخاص، في خطوة غير مسبوقة تمس أحد أكثر الملفات ارتباطاً بالبعد الديني والاجتماعي والإنساني في المجتمع المصري.
وكشف مصدر حكومي فى تصريحات صحفية عن عقد سلسلة اجتماعات مكثفة خلال الفترة الماضية بين ممثلي شركة «سُكنة» وعدد من الجهات الحكومية والجهات السيادية، لوضع رؤية شاملة لإعادة هيكلة قطاع المقابر، بما يشمل نقل المقابر القائمة داخل القاهرة إلى خارج الحيز العمراني بحلول عام 2030، إلى جانب إدخال القطاع الخاص شريكاً رئيسياً في الإدارة والتشغيل.
صدام مع التراث والذاكرة الوطنية
ولا يقتصر المشروع على المقابر الحديثة، بل يمتد إلى المقابر التاريخية ذات الطابع التراثي، وهو ما يفتح الباب أمام صدام واسع مع المؤسسات الثقافية المحلية والدولية. إذ تضم تلك المناطق قبور شخصيات تاريخية، ومقابر مصنفة كمبانٍ تراثية فريدة، تحتوي على نقوش وزخارف تصنف ضمن الآثار الإسلامية.
وأوضح المصدر أن تنفيذ الخطة الحكومية سيؤدي إلى تصعيد الخلاف مع الجهات المعنية بالثقافة والتراث، في ظل توجه رسمي يتعامل مع المقابر باعتبارها «أراضي قابلة للاستثمار»، لا جزءاً من الذاكرة التاريخية للبلاد.
تعديل القوانين لفتح الباب للخصخصة
وبحسب المصدر، انتهى ممثلو شركة «سُكنة»، بالتنسيق مع جهات سيادية، من إعداد مقترحات تشريعية ونصوص قانونية لتعديل قانون الجبانات الحالي، بما يسمح بدخول القطاع الخاص في إدارة هذا القطاع، بعد أن ظل لعقود حكراً على المحليات وأجهزة الدولة.
ومن المقرر طرح هذه التعديلات على مجلس النواب الجديد فور اكتمال تشكيله، وسط محاولات حكومية متزامنة لـ«جس نبض الشارع» وقياس ردود الفعل الشعبية، وفق مصدر حكومي ثانٍ، خاصة أن المشروع يشمل تخصيص المقابر الجديدة ونقل القديمة بواسطة شركات خاصة.
أرقام صادمة… ومشروع بلا حوار مجتمعي
وتشير البيانات الرسمية إلى أن المشروع الحكومي يستهدف نقل نحو 2134 فداناً من المقابر الحالية خارج الكتل السكنية حتى عام 2030، على أن ينطلق التنفيذ الفعلي خلال عام 2026. كما تعتزم الدولة تخصيص نحو 10 آلاف فدان لإنشاء مقابر جديدة شرق وغرب القاهرة الكبرى.
كما قررت الحكومة إقامة مجمع خاص لنقل رفات الشخصيات التاريخية بالقرب من متحف الحضارات، تحت مسمى «مقبرة الخالدين»، في خطوة أثارت تساؤلات واسعة حول معايير الاختيار، وحدود العبث بالقبور، وغياب أي نقاش مجتمعي أو ديني حقيقي.
من المال العام إلى سلعة
وينص قانون الجبانات الحالي بوضوح على أن أراضي الجبانات من الأموال العامة، وتخضع لإدارة المجالس المحلية، مع تحديد رسوم الانتفاع بها. غير أن التعديلات المقترحة تعني عملياً نزع الصفة العامة عن المقابر، وتحويلها إلى خدمة مدفوعة تخضع لمنطق السوق، في بلد يعيش أغلب سكانه تحت خط الفقر أو بالقرب منه.
الفقير يدفع… حتى بعد الموت
في بلد تبيع فيه الدولة الشواطئ والمطارات والموانئ، لم يعد مستغرباً أن تُباع المقابر أيضاً. لكن الخطورة الحقيقية تكمن في أن هذه السياسات تسحب آخر ما تبقى من كرامة الفقراء، الذين سيجدون أنفسهم مطالبين بدفع ثمن الحياة وثمن الموت معاً، في دولة لا ترى في مواطنيها سوى أرقام قابلة للتحصيل.
هكذا، لا يكتفي النظام العسكري بالسيطرة على المجال العام، بل يمد نفوذه إلى القبور، محولاً الموت إلى «بزنس»، والجنائز إلى فاتورة، والمقبرة إلى مشروع استثماري… في مشهد يلخص إلى أي مدى وصلت سياسة الجباية في مصر.
إ
