في قرية صغيرة منسية في قلب صعيد مصر، اسمها "نزلة الجلف" بمحافظة المنيا، اشتعلت أزمة اجتماعية بدت في ظاهرها "قضية حب مراهقين"، لكنها سرعان ما تحولت إلى اختبار جديد لعلاقة الدولة بمواطنيها، وإلى مرآة تكشف هشاشة الخطاب الرسمي حول "الوحدة الوطنية" و"هيبة الدولة".
بدأت القصة بعلاقة عاطفية بين شاب قبطي (18 عامًا) وفتاة مسلمة قاصر (16 عامًا)، وانتهت ـ كما هو متكرر في الصعيد ـ بجلسة عرفية أفضت إلى تهجير أسرة الشاب القبطي وفرض غرامة مليون جنيه، تحت سمع وبصر أجهزة الأمن ومسؤولي الدولة المحليين، الذين شارك بعضهم في تلك الجلسة باسم “التهدئة”.
وزارة الداخلية، كعادتها، سارعت إلى إصدار بيان ينفي البعد الطائفي للأحداث، مؤكدة أنها مجرد “مشاجرة عائلية”، في محاولة لطمس البعد الديني والسياسي الذي فجر موجة غضب واسعة على مواقع التواصل الاجتماعي، حيث رأى كثير من النشطاء أن النظام يوظّف هذه الأحداث لتذكير الأقباط ضمنيًا بأن “الأمن الحقيقي يأتي من الدولة”، أي من نظام السيسي تحديدًا، لا من المساواة أمام القانون أو العدالة المدنية الغائبة.
على النقيض، يرى آخرون أن ما جرى لا يحتاج إلى مؤامرة؛ فالأمر ببساطة يعكس عجز الدولة وضعف قبضتها على مجتمعات مسلحة بالعرف والعصبية أكثر من القانون. لكن في كلتا الحالتين، يبقى الثابت أن الدولة المصرية ـ رغم خطابها المتكرر عن “المواطنة” ـ تتخلى فعليًا عن مسؤوليتها في تطبيق القانون كلما تعلق الأمر بملفات حساسة تمس الدين أو الأمن الاجتماعي في الصعيد.
التغطية على الفشل: الفتنة كصوت بديل عن المساءلة
تتزامن أزمة “نزلة الجلف” مع ذروة الجدل حول بيع أصول الدولة وشركاتها العامة ضمن ما يسمى بـ“برنامج الطروحات”، ومع تصاعد معدلات الفقر والبطالة، وتراجع الثقة العامة في مؤسسات الحكم. وهنا يرى مراقبون أن النظام يوظّف “أحداثًا جانبية” مثل هذه لإعادة توجيه الانتباه عن الأزمات الاقتصادية والسياسية العميقة، ولتذكير قطاعات من المجتمع ـ خصوصًا الأقباط ـ بأن وجودهم الآمن مرهون باستمرار النظام القائم، في ظل خطاب غير معلن يقول: “بدوني، سيأكلكم المتطرفون.”
تلك الرسالة غير المعلنة تتجدد كلما وقعت حادثة مشابهة في المنيا أو سوهاج أو أسيوط، وهي مناطق عرفت خلال العقدين الأخيرين عشرات الحوادث ذات الطابع الطائفي، لم يُقدَّم فيها المتورطون إلى محاكمات عادلة، بل اكتُفي دائمًا بـ“جلسات الصلح العرفي” التي تكرّس التمييز وتغيب فيها الدولة.
السوشيال ميديا: كاشف التواطؤ
على مواقع التواصل، احتدم الجدل بين من يرى الحادثة “قضية شرف محلية” ومن يعتبرها نموذجًا مصغرًا لسياسة الدولة تجاه الأقباط والمهمشين.
الصحفيون المستقلون والمدونون الحقوقيون، مثل بعض كتاب الصفحات المعارضة في الخارج، ربطوا بين الواقعة وبين ما وصفوه بـ"توظيف النظام للفتنة الطائفية كصمام أمان سياسي"، بينما كتب آخرون أن “الدولة التي تعجز عن حماية شاب من الطرد بسبب دينه، هي نفسها التي تبيع أصولها وتفرط في سيادتها تحت شعار التنمية”.
ما بين الدولة والفراغ
الأخطر أن مثل هذه الأزمات لا تبقى محلية؛ إنها تؤسس لوعي جمعي جديد يقوم على غياب الدولة وتآكل الثقة في القانون. فحين يُترك مصير أسرة كاملة ليُقرر في جلسة عرفية، بحضور ممثلين عن السلطة، فإن الرسالة إلى المصريين واضحة: الدولة لم تعد مرجع العدالة، بل طرفًا في إدارة التوازنات الطائفية والطبقية بما يخدم استمرار النظام لا سيادة القانون.
خلاصة تحليلية
تُظهر أزمة "نزلة الجلف" أن نظام السيسي يواصل تسييس الطائفية، ليس عبر التحريض المباشر، بل من خلال تركها تعمل كأداة تفريغ وغسل للوعي العام، في ظل انسداد الأفق السياسي وغياب العدالة الاجتماعية.
