في ظل الحرب والتشرذم السوداني الداخلي، تتصارع القوى الدولية والإقليمية على توسيع نفوذها بالمنطقة الاستراتيجية، في البحر الأحمر.
وأثار توقيع السودان اتفاقًا مع روسيا لإنشاء قاعدة عسكرية في مدينة بورتسودان على البحر الأحمر جدلًا، بسبب ما ارتبط به من تساؤلات حول الثمن الذي حصل عليه السودان مقابل هذه الخطوة، بالإضافة إلى مخاوف بعض دول المنطقة، مثل مصر، من تمدد روسيا على البحر الأحمر وفي الداخل السوداني، وهو ما رأته بعض المصادر المطلعة تهديدًا للأمن القومي المصري.
ويقضي اتفاق إنشاء قاعدة بحرية روسية في مدينة بورتسودان مع دعم الجيش السوداني بأسلحة وعتاد، وقد استغرقت السودان وروسيا شهورًا طويلة من أجل الوصول إلى الشكل النهائي للاتفاق الحالي.
ويطرخ الاتفاق السوداني الروسي تساؤلات أيضًا حول مصير المفاوضات السودانية الإيرانية بخصوص إنشاء قاعدة عسكرية إيرانية في البحر الأحمر، وهي المفاوضات التي انطلقت منذ شهور بين الطرفين.
أهمية استراتيجية
تقع القاعدة في ميناء بورتسودان على ساحل البحر الأحمر، مما يمنحها موقعاً استراتيجياً للوصول إلى المحيط الهندي والبحر الأحمر، وتضم القاعدة منشآت لوجستية لدعم العمليات البحرية، بما في ذلك مرافق للإمداد بالوقود، الصيانة، والإصلاحات، كما تم تصميم المرافق لاستيعاب السفن الحربية الروسية، بما في ذلك السفن النووية.
كما يمكن للقاعدة دعم ما يصل إلى أربع سفن حربية في وقت واحد، بما في ذلك الغواصات النووية، كما تشمل المرافق مخازن للأسلحة والذخيرة، مما يسمح بدعم عمليات بحرية طويلة الأمد، وتُستخدم القاعدة لتوفير الدعم اللوجستي والتقني للسفن الحربية الروسية في المنطقة، مما يساعد في تعزيز التواجد العسكري الروسي في البحر الأحمر وتأمين المصالح البحرية الروسية.
يتيح الموقع لروسيا مراقبة حركة الملاحة البحرية والسيطرة على أحد أهم ممرات الشحن العالمية بين آسيا وأوروبا، مما يعزز قدرتها على حماية مصالحها الاقتصادية في المنطقة، ويعزز الموقع من نفوذ روسيا في القارة الإفريقية، ويتيح لها تقوية علاقاتها العسكرية والسياسية مع دول المنطقة.
تهدف روسيا من وراء القاعدة إلى تأمين المصالح الاقتصادية الروسية في السودان والمنطقة، خاصة في مجالات التعدين والطاقة، وتتيح القاعدة لروسيا توسيع نفوذها الجيوسياسي في منطقة البحر الأحمر، والشرق الأوسط، والمحيط الهندي، مما يعزز قدرتها على مواجهة التواجد العسكري الغربي في المنطقة، كما تساهم القاعدة في تعزيز القدرات الروسية في مكافحة الإرهاب والقرصنة، مما يدعم الاستقرار البحري في البحر الأحمر والمحيط الهندي.
البرهان وموازنة الحرب
ومؤخرا، كشفت مصادر في الجيش السوداني أن عبد الفتاح البرهان اعتمد الموافقة على إنشاء القاعدة البحرية الروسية في مدينة بورتسودان، وذلك بعد أن حقق إنجازات على الأرض ضد قوات الدعم السريع في الأسابيع القليلة الماضية، وليس قبل ذلك، حيث كان البرهان يتخوّف من الوجود الروسي في السودان على البحر الأحمر خلال فترة “تمدد” قوات الدعم السريع في مدن السودان.
وقالت المصادر: إن “البرهان كان يتخوّف من أن تدعم القوات الروسية حميدتي في حال تواجدها في البحر الأحمر، قبل أن يحسم معركته في بعض المدن الهامة ضد قوات الدعم السريع، حيث كان يخشى أن يتم تهريب أو “تسريب” أسلحة إلى داخل السودان لتصل إلى يد قوات الدعم السريع خلال الفترة الماضية”.
وأشارت المصادر إلى أن المفاوضات مع الجانب الروسي استغرقت شهورًا حتى تم الوصول إلى الصيغة النهائية للاتفاق المبرم بين الجيش السوداني وروسيا لإنشاء القاعدة البحرية في بورتسودان على البحر الأحمر، وهو اتفاق من شأنه أن يساعد الجيش السوداني كثيرًا في معركته ضد قوات الدعم السريع.
السلاح الروسي
وأوضحت المصادر أن السودان يعوّل على ملفين هامين من وراء الاتفاق مع روسيا: الأول، الحصول على أسلحة روسية متنوعة وكثيرة تساعد في إعادة بناء الجيش السوداني من جديد بعد الحرب التي يخوضها حاليًا ضد قوات الدعم السريع، أما الملف الثاني، فيتعلق بضمان دعم روسيا للسودان في ملف العقوبات أمام مجلس الأمن.
مخاوف مصرية
وكان الاتفاق السوداني مع روسيا محل نقاش كبير بين مصر والسودان، بهدف التفاهم حول جميع بنود الاتفاق بما يضمن الحفاظ على الأمن القومي المصري في المنطقة.
وقالت مصادر مصرية مطلعة على الملف في وزارة الخارجية: إن “مصر كانت على اطلاع مباشر على مفاوضات السودان بشأن القاعدة العسكرية الروسية في البحر الأحمر، ولم يكن لديها أي اعتراض، خاصة أن هناك تنسيقًا مصريًا روسيًا في ملف الحرب السودانية، يقوم على دعم الجيش السوداني في مواجهة “الميليشيا الخارجة عن القانون” في إشارة إلى قوات الدعم السريع.
وأوضحت المصادر المصرية أن الجانب السوداني اتفق مع القاهرة على جميع بنود الاتفاق الروسي، لا سيما أن جنوب البحر الأحمر يُعدّ “منطقة أمن قومي لمصر”، على حد تعبيرها. كما شدّدت على أن القاهرة سعت إلى دعم موقف الجيش السوداني والسلطة هناك في الأوساط الإقليمية والدولية، حتى يتمكن السودان من تحقيق تقدم عسكري على الأرض، مما يساعده لاحقًا في الجلوس مع الجانب الروسي لإبرام الاتفاق.
أما فيما يتعلق بمخاوف مصر من التمدد الروسي في إفريقيا على حساب النفوذ المصري، خاصة في حال الوجود الفعلي لروسيا في القاعدة العسكرية المرتقبة في بورتسودان، فقد أكدت المصادر المصرية أن الطرف السوداني استمع إلى جميع المخاوف المصرية وقدم “وعودًا واضحة” بعدم السماح لروسيا بتجاوز البنود المتفق عليها في الاتفاق.
وكانت المخاوف المصرية تدور حول إمكانية توسع النفوذ الروسي في إفريقيا، مما قد يسمح لموسكو بالتحكم في البحر الأحمر وكذلك في مقدرات السودان، إلا أن الجانب السوداني “بدّد هذه المخاوف” للقاهرة بشكل كامل.
الموقف الإيراني
ومانت مفاوضات بدأت منذ شهور قليلة بين إيران والسودان لإنجاز اتفاق يتعلق بإنشاء قاعدة لتزويد السفن بالوقود على البحر الأحمر، إلا أن ضغوطًا أمريكية حالت دون إتمام الاتفاق، وهو اتفاق كانت وما زالت إيران تعوّل عليه.
وتتمثل مخاوف السودان الحقيقية من إبرام اتفاق مع إيران بشأن القاعدة العسكرية في أن السلطة السودانية تتخوف من أن تستغل إيران هذه القاعدة لتهريب الأسلحة إلى مناطق مختلفة في المنطقة، بما في ذلك قطاع غزة، وحزب الله في لبنان، والحوثيين في اليمن، وهو ما قد يضع السودان في أزمة دولية كبيرة.
في المقابل، كشفت مصادر إيرانية تعمل داخل مؤسسة المرشد الأعلى للثورة الإسلامية، علي خامنئي، أن إيران دعمت عبد الفتاح البرهان، رئيس الجيش السوداني الحالي، في الحرب ضد قوات الدعم السريع عبر تزويده بطائرات مسيّرة، وذلك بالتفاهم مع أطراف إقليمية، منها مصر وتركيا، وتسعى إيران إلى استعادة نفوذها في السودان مرة أخرى، كما كان في عهد الرئيس السوداني المخلوع عمر البشير.
وما زالت مفاوضات القاعدة العسكرية الإيرانية مع السودان ما زالت قائمة، لكن الخرطوم طلبت إرجاء الأمر لحين الانتهاء من الحرب في السودان ضد قوات الدعم السريع.
ويسعى البرهان إلى علاقة قوية مع إيران بعد تحقيق انتصار في الحرب، حتى يكون في موقف قوي يجعله قادراً على مواجهة أي انتقادات أو ضغوط إقليمية أو دولية ضده بسبب قراره الخاص بالموافقة على قاعدة عسكرية لإيران في السودان.
يشار إلى إن روسيا تحتفظ بعلاقات قوية مع قوات الدعم السريع منذ سنوات، وتعمل معه في استخراج الذهب من السودان، ولذلك فقد كان الجيش السوداني يتخوف من أن تظل روسيا على علاقات قوية مع قوات الدعم السريع، بينما تتفاوض على إنشاء القاعدة العسكرية في بورتسودان.
لذلك حرص الجيش السوداني على تقديم “إغراءات” لروسيا لكي لا تذهب إلى التحالف مجدداً مع قوات الدعم السريع، وسمح لها بالاستمرار في “الاستحواذ” على كل ما يتم استخراجه من ذهب سوداني كما كان الأمر في الماضي.
بالإضافة إلى ذلك، سوف يسمح البرهان لروسيا بالتواجد الاقتصادي الكبير في السودان بعد انتهاء الحرب، من خلال الاستثمار في قطاعات التعدين والفوسفات، وكذلك الاستثمار في قطاعات مثل النفط والبنية التحتية للنفط، خاصة بعد تسبب الحرب في تدمير مصافٍ نفطية وخطوط أنابيب ومستودعات نفط وحقول نفطية.
بالإضافة إلى ذلك، وافق البرهان على استثمار روسيا في إعادة بناء مصفاة الخرطوم ومصفاة جديدة في المنطقة الجديدة شرق البلاد، وذلك من أجل إنتاج 120 ألف برميل يومياً.