صراع الهيئات القضائية في انتخابات ما بعد الانقلاب: أزمة تكشف تصدّع النظام من الداخل
اشتعلت في مصر، عقب انتهاء المرحلة الأولى من انتخابات مجلس النواب 2025، واحدة من أعنف الأزمات القضائية – الانتخابية منذ انقلاب يوليو 2013.
فبعد أن أعلنت الهيئة الوطنية للانتخابات بطلان نتائج التصويت في 19 دائرة فردية بدعوى “الخروقات الجسيمة”، انزلقت الأزمة من نطاق الطعون القانونية إلى صدام مفتوح بين هيئات قضائية لطالما قُدِّمت كدعامات الثقة داخل مؤسسات الدولة.
هذا الانفجار غير المسبوق بدا بمثابة مشهد تشريحي لاهتزاز بنية الإدارة القضائية التي يعتمد عليها النظام لضبط العملية الانتخابية، وفضح حدود قدرة السلطة على ضبط التنافس المؤسسي تحت مظلتها، خاصة في ظل غياب الإشراف القضائي الكامل لأول مرة منذ عقود.
بيانات متصارعة
ومحاولة كل طرف التنصل من كلفة الفشل
البداية جاءت من نادي قضاة مصر الذي أصدر بياناً بدا “توضيحياً”، لكنه حمل رسالة صريحة: القضاة وأعضاء النيابة العامة لم يشاركوا في الإشراف على الانتخابات التزاماً بدستور 2014. الرسالة كانت قنبلة سياسية؛ فهي تعني عملياً أن الهيئات التي تولت الإشراف هي وحدها المسؤولة عن الانهيار التنظيمي الذي أطاح بنتائج 19 دائرة.
الرد جاء سريعاً من نادي مستشاري النيابة الإدارية، ببيان دفاعي صاخب، اتهم فيه الهيئة الوطنية للانتخابات بالفشل في إدارة المشهد، نافياً أي تقصير من أعضائه، ومؤكداً أن الإشراف تم “بحياد كامل”. ثم دخلت هيئة قضايا الدولة عبر رسالة داخلية حاول رئيسها بها تهدئة الأعضاء بعد موجة انتقادات تتهم المشرفين بـ“التلاعب في النتائج”.
لكن الانفجار الأكبر جاء من النادي البحري للنيابة الإدارية، الذي استخدم لغة غير مسبوقة، وهاجم بيان نادي القضاة واعتبره “نرجسياً”، موجهاً اتهامات مباشرة للهيئة الوطنية بأنها عرضت المشرفين لـ“ظروف غير إنسانية” وفشلت في توفير أبسط متطلبات العملية الانتخابية.
هنا خرج الخلاف من حدود البيانات “المهذبة” إلى صدام يضرب هيبة القضاء أمام الرأي العام، وهو ما أكده رئيس محكمة استئناف القاهرة السابق، المستشار أشرف مصطفى، واصفاً المشهد بأنه “اهتزاز واضح لمكانة القضاء”، وأن الأزمة تكشف “ارتباكاً تنظيمياً داخل الهيئة الوطنية نفسها”.
من أزمة إجرائية إلى أزمة نظام… غياب الإشراف القضائي الكامل يعرّي هشاشة المشهد
يرى متخصصون أن جذور الأزمة أعمق بكثير من مجرد خطأ إداري؛ فهي المرة الأولى التي تجري فيها انتخابات من دون إشراف قضائي شامل، وهو ما اعتبره قانونيون “اختباراً فاضحاً لقدرة مؤسسات الدولة على إدارة منافسة انتخابية ولو صورية”. المحامي مصطفى علوان وصف المشهد بأنه نتيجة “غياب النظام وتضارب التعليمات وفوضى تنظيمية شاملة”.
أما المحامي الحقوقي صالح حسب الله فأكد أن المال السياسي كان “اللاعب الأكبر” في الجولة الأولى، وأن غياب لجان متابعة الإنفاق الانتخابي جعل شراء الأصوات ظاهرة “غير مسبوقة خلال عشر سنوات”، مع غياب تحرير المحاضر الرسمية في عشرات الحالات.
بهذا تصبح الأزمة انعكاساً لفشل الدولة في ضبط المسار الانتخابي حتى بمعاييرها الداخلية، وليس فقط نتيجة أخطاء فنية أو سوء إدارة.
الهيئة الوطنية تحمّل المسؤولية للمشرفين… والسيسي يظهر كصاحب القرار الأخير
في مؤتمر صحفي، أعلنت الهيئة الوطنية أن كل من يثبت تقصيره “لن يشارك في المرحلة الثانية”، مؤكدة أنها ألغت النتائج بعد “توجيه الرئيس عبد الفتاح السيسي” بذلك—في إشارة تكشف هيمنة القرار السياسي المباشر على العملية الانتخابية.
وتزامن ذلك مع مطالبة الأحزاب بتسليم مستندات “الإنفاق الدعائي”، بينما تم التوجيه لرؤساء اللجان بتسليم الحصر العددي للوكلاء وإتاحة حضور الصحافة لأعمال الفرز، وهي خطوات جاءت بعد وقوع الانفجار، ما يعكس ارتجالاً لا يليق بمؤسسة تدير أهم استحقاق سياسي في البلاد.
نتائج بلا منافسة… وحسم مسبق للقوائم الموالية للنظام
ورغم بطلان ثلث الدوائر الفردية تقريباً، اعتمدت الهيئة نتائج القوائم المغلقة التي كانت محسومة سلفاً لصالح “القائمة الوطنية من أجل مصر”، المكوّنة من 11 حزباً موالياً للنظام، بعد ترشحها منفردة في قطاعات كاملة.
هذا التناقض —إلغاء دوائر فردية بسبب فساد العملية، مقابل تثبيت نتائج القوائم بلا منازع— يعزز الانطباع بأن الخلل ليس في تفاصيل تقنية، بل في تصميم عملية انتخابية مفصّلة لإنتاج برلمان موالٍ مهما كانت التكلفة.
