الضغوط الاقتصادية والكبت والقمع والاستبداد وغياب حرية التعبير وانتهاكات حقوق الإنسان بجانب البطالة وتراجع مستوى المعيشة تسببت فى انتشار الأمراض النفسية بصورة غير مسبوقة بين المصريين فى زمن الانقلاب الدموى بقيادة عبدالفتاح السيسي .
هذه الأوضاع دفعت الكثير من الشباب إلى الانعزال عن المجتمع وعدم المشاركة فى أى أنشطة أو إدمان مواقع السوشيال ميديا ما أدى إلى إصابة الآلاف منهم بأمراض الاكتئاب والرهاب الاجتماعى والوسواس والاضطرابات ثنائية القطب والإدمان الرقمى .
وسواس قهري
حول ما يتعرض له الشباب من ضغوط فى زمن الانقلاب قالت مريم سعيد، ٢٢ سنة،: أول مرة بدأت أشعر فيها بأن شيئاً ما غريباً حينما كنت أعود من المدرسة وأظل أغسل يدي بالصابونة لأكثر من نصف ساعة، أمي كانت تعنفني لكنني كنت أشعر بأنني لو لم أفعل ذلك سأصاب بمرض خطير.
وأضافت مريم سعيد : الموضوع كبر معي في الجامعة.. كنت قبل أي امتحان أقضي وقتاً طويلاً في الحمام لأغسل يدي، كما كنت دائماً أعيد وضوئي أكثر من مرة، وفي الصلاة نفسها كنت أعيدها كثيراً لشعوري بأن هناك شيئاً ما خطأ، وصلت لمرحلة أني كنت أبكي ليلاً من التعب .
وأشارت إلى أنها عندما ذهبت لطبيب نفسي اكتشفت أنها تعاني من الوسواس القهري، مؤكدة أنها هنا فقط شعرت بالراحة.. وعرفت بأن ما تعاني منه مرضًا وليس ضعفاً .
أخاف أن أتكلم
وقال أحمد السيناوي ٢٣ سنة يعاني من (الرهاب الاجتماعي)،: منذ صغري كنت أخاف أن أتكلم أمام أي أحد في المدرسة، كنت أتهرب من الوقوف للإجابة رغم أنني أعرفها، فقط لمجرد أن المدرس ينظر إلي.. قلبي كان يدق بسرعة .
وأشار السيناوى إلى أن هذا الخوف استمر عندما كبر، قائلا : في الجامعة كان مطلوباً مني عمل عرض "بريزنتيشن".. الليلة التي قبلها لم أنم.. ويومها كان جسمي كله يرتعش وصوتي يتقطع وضحك علي زملائي، من بعدها أصبحت أتجنب أي نشاط اجتماعي وقررت أن أبتعد عن الناس وأعيش في هدوء وسلام مع نفسي.
اكتئاب
وقالت سلمي حامد طالبة جامعية: الاكتئاب بالنسبة لي هو واقع أعيشه يومياً، في الصباح لا أستطيع أن أتحرك.. أظل لفترة ملقاة علي السرير أنظر للسقف، فقدت شغفي بالقراءة والرسم، كل من حولي يقولون لي "قومي، غيري جو، اخرجي معانا" لكن لا أحد يستوعب أن مجرد خروجي من عزلتي هذه بمثابة "تجربة صعبة".
وأضافت سلمى حامد : شعرت بأن وجودي عبء على من حولي، وذهبت في النهاية إلى طبيب نفسي وصف لي علاجاً دوائياً وجلسات علاج معرفي سلوكي، وبمرور الوقت عرفت أن الاكتئاب ليس ضعفاً ولكنه مرض يحتاج للصبر والعلاج.
"البنت التخينة "
وقالت روان هاني تعاني من (اضطرابات الطعام)،: دائمًا كنت "البنت التخينة في الفصل"، زملائي كانوا يضحكون علي بسبب زيادة وزني، السوشيال ميديا أكملت علي، كلما شاهدت صور موديلز بأجسام رشيقة شعرت بالنقص .
وأضافت روان هانى : بدأت أقلل من الأكل تدريجياً بعد فترة حتي امتعنت تمامًا عن كل شيء أحبه، شعرت وقتها بأنني أتحكم في جسمي.. لكن الحقيقة أني كنت أدمر نفسي بعدما نزل وزني ٢٠ كجم في شهور وأصبحت أشعر بدوخة وهبوط، وهنا اكتشفت أني أعاني من مشاكل صحية لها علاقة بالتغذية وأيضاً معاناة نفسية.. ولأني كنت محرومة من كل حاجة رجعت آكل مرة ثانية وزاد وزني أكثر، وبدأت أتقبل نفسي كما هي.
حفرة سودة
وقال كريم سميح يعاني من (اضطراب ثنائي القطب)،: أنا عشت على الجانبين: النور والظلام، في فترات معينة أشعر بأنني خارق وأظل مستيقظاً ٣ أيام بلا نوم، عقلي ملئ بأفكار، وأكتب خطط مشاريع وأصرف أموالاً كثيرة ومن حولي يرونني ناجحاً ولدي طاقة كبيرة، لكن بعدها بأسابيع أقع في حفرة سودة.. أقعد في البيت لشهور، مكتئبا، غير قادر حتى علي أن أرد على التليفون.
وأكد سميح أن هذا المرض أضاع منه فرصاً كثيرة، خطيبته تركته لأنها لم تتحمل تقلباته، شغله خسره أكثر من مرة، مشيرا إلى أنه عندما اكتشف أنه مصاب بـ"بايبولار" بدأ العلاج الدوائي مع جلسات نفسية.
ضغوط مضاعفة
حول هذه الأزمة قالت استشاري الصحة النفسية الدكتورة نورهان النجار: الأمراض النفسية بين الشباب لم تعد حالات فردية، بل أصبحت ظاهرة تستحق أن يتعامل معها المجتمع بجدية كاملة، مشيرة إلى أن الضغوط الاقتصادية والاجتماعية، إضافة إلى تأثير وسائل التواصل الاجتماعي، جعلت الشباب أكثر عرضة للإصابة بالاضطرابات النفسية .
وأكدت نورهان النجار فى تصريحات صحفية أن جيل اليوم يعيش تحت ضغوط مضاعفة؛ فهم يواجهون تحديات الدراسة والعمل والبطالة، وفي الوقت نفسه يقارنون أنفسهم بصور مثالية وغير واقعية على منصات التواصل، موضحة أن هذا التناقض يولد شعورًا بالعجز والدونية، ويفتح الباب واسعًا أمام أمراض مثل الاكتئاب واضطرابات الأكل والرهاب الاجتماعي .
وأضافت : الوسواس القهري (OCD) ليس ضعفًا في الإرادة ولا نقصًا في الإيمان، كما يعتقد البعض، وانما هو اضطراب نفسي له أساس بيولوجي، حيث تهاجم المريض أفكار قهرية متكررة، تجبر صاحبها على سلوكيات مرهقة مثل الغسل المتكرر أو التحقق المستمر، مؤكدة أن العلاج متاح وفعّال، خصوصًا إذا بدأ مبكرًا عبر جلسات العلاج السلوكي المعرفي مع الأدوية.
وعن الرهاب الاجتماعي أوضحت نورهان النجار: إنه مرض يحرم المريض من أبسط حقوقه ويمنعه من أن يعبر عن نفسه.. قد يكون الشاب أو الفتاة مبدعًا، لكن الخوف من التقييم والسخرية يمنعانه من التقدم.. لافتة إلى أن الكثير من الحالات تضيع منها فرص تعليمية ومهنية فقط لأنها لم تحصل على التشخيص والدعم اللازم.
الانتحار
وشددت على أن الاكتئاب ليس كسلًا ولا ترفًا، بل مرض يؤثر على كيمياء الدماغ، موضحة أن المريض يعيش فقدانًا للرغبة والطاقة، وقد يصل إلى التفكير في الانتحار، والتعامل معه على أنه ضعف شخصية يزيد الأمر سوءًا والعلاج المبكر ينقذ حياته، والدعم الأسري والاجتماعي يصنع الفارق.
وعن اضطرابات الطعام، قالت نورهان النجار: أصبحنا نرى تزايدًا ملحوظًا في اضطرابات الأكل، خاصة بين الفتيات فالضغوط الاجتماعية ومعايير الجمال الزائفة التي تروج لها المنصات الرقمية تجعل كثيرًا من الشابات يعرضن حياتهن للخطر في سبيل الوصول إلى جسم مثالي، مشددة على أن هذه الاضطرابات ليست مجرد "حمية غذائية"، بل مرض يحتاج إلى تدخل نفسي وطبي متكامل.
وحول الاضطراب ثنائي القطب أشارت إلى أنه يُساء فهمه كثيرًا لأن تقلب المريض بين فترات النشاط المفرط والاكتئاب الحاد ليس مجرد "مزاج متغير"، بل اضطراب يحتاج إلى علاج طويل المدى بأدوية مثبتة للمزاج وجلسات متابعة، محذرة من أن الكثير من العلاقات تفشل والفرص تضيع بسبب عدم إدراك خطورة هذا المرض.
