يبدو أن القطن المصري لم يعد له يوم عيد خلال موسم الحصاد ،كما كان في الماضي ، حيث يحصد المحصول وتقام الأفراح ويتزوج الشباب ، من ايراده ، أما الآن فيواجه مزارعو القطن خسائر فادحة خلال الموسم الحالي، بسبب خفض أسعار التوريد وغياب الدعم الحكومي، وتدهور الإنتاج، ومشكلات تسويق المحصول، في ظل ارتفاع تكاليف الزراعة، وتراجع عوائد البيع.
وفي الوقت الذي يعاني فيه مزارعو القطن من ضعف الإنتاج وغياب الدعم، وتخبط السياسات السعرية وآليات التسويق، فإن الذهب الأبيض الذي كان قبل عقود رافدًا رئيسيًا للاقتصاد المصري، بات يترنح بين تقلبات السوق العالمية وتداعيات التغيرات المناخية، وسط مطالبات متزايدة بوضع استراتيجية واضحة تعيد للمحصول مكانته التاريخية.
وحذر المزارعون حكومة الانقلاب من أن استمرار الأوضاع الحالية قد يدفعهم إلى هجر زراعته، مؤكدين أن إنقاذ القطن لن يتحقق إلا عبر دعم حقيقي، وضمان أسعار عادلة للمحصول، وتطوير لمنظومة التصنيع والتسويق.
كان عدد من مزارعي القطن قد كشفوا عن تلقيهم أنباء عن إلغاء سعر ضمان توريد القطن للموسم الزراعي الحالي، الأمر الذي أثار تخوفهم من حدوث هبوط حاد في أسعار القطن، بشكل لا يغطي تكاليف إنتاجه وحصاده، وقال البعض: إنه "سيتم تسعير قنطار القطن بنحو 6 آلاف جنيه إلى 7 آلاف جنيه مقابل 10 و 12 ألف جنيه الموسم الماضي" .
سعر الضمان
حول المشكلات التي تواجه محصول القطن قال وليد السعدني، رئيس لجنة تنظيم تجارة القطن بالداخل : "لم يعد هناك ما يسمى بـ”سعر ضمان” لتوريد القطن، مشيرًا إلى أن تسعير المحصول أصبح يعتمد بالكامل على آلية العرض والطلب وفقًا للأسعار العالمية، التي تشهد حاليًا حالة من الانخفاض".
وأوضح السعدني في تصريحات صحفية أن هذه الآلية تشبه التعامل في البورصات العالمية، مثل الذهب الذي يتغير سعره من يوم إلى آخر، ويعد اختلاف أسعار المحاسبة بين الفلاحين أمرًا طبيعيًا، فقد يبيع أحدهم القنطار بعشرة آلاف جنيه، بينما يبيعه آخر في اليوم التالي بـ 11 ألفًا، أو حتى ثمانية آلاف، وذلك وفقًا لحركة السوق .
وفيما يتعلق بمخاوف الفلاحين من أن الأسعار العالمية قد لا تغطي تكاليف الإنتاج، كشف أن هناك مطالبات لحكومة الانقلاب بوضع ضمانات تطبيقية للحفاظ على استراتيجية النهوض بزراعة وصناعة القطن، لافتًا إلى أن المزادات المرتقبة ستوفر أسعارًا معقولة من شأنها تغطية تكلفة الإنتاج وتحقيق هامش ربح للفلاحين.
السوق العالمي
وأوضح السعدني أن تباين الأسعار بين منطقة وأخرى أو بين أسبوع وآخر يعود إلى طبيعة السوق العالمي للقطن، التي تشبه أسواق الذهب من حيث التغير المستمر في الأسعار اليومية، وهو ما يفسر حصول بعض المزارعين على أسعار مختلفة لنفس المحصول في فترات متقاربة.
وبشأن مستحقات مزارعي القطن، أكد أن نظام السداد تغير جذريًا، بحيث يحصل المزارع على كامل مستحقاته خلال 20 يومًا من تاريخ البيع، وذلك لتجنب الأضرار التي لحقت به في المواسم السابقة نتيجة تأخر الصرف.
وكشف السعدني أن المساحات المزروعة بالقطن تراجعت هذا العام بنسبة تصل إلى 35%، حيث انخفضت من 311 ألف فدان في الموسم الماضي إلى نحو 195 ألف فدان فقط، مؤكدا أن ذلك يرجع إلى غياب “سعر الضمان” هذا الموسم مقارنة بالموسم السابق الذي شهد توسعًا كبيرًا في الزراعة فور إعلان السعر.
وأشار إلى أن حكومة الانقلاب حررت تجارة القطن بالكامل، سواء من حيث تحديد الأسعار أو حصص التصدير والاستيراد، وهذا قد يتيح التوسع في صادرات القطن خلال الموسم الجديد .
منظومة تداول القطن
وقال المهندس الزراعي محمد خضر، رئيس هيئة تحكيم القطن السابق: إن "أزمة القطن تعود إلى تراكمات ممتدة لعقود، نتيجة غياب سياسة زراعية وصناعية واضحة وثابتة للمحصول، موضحا أنه في الفترة الأخيرة في ظل التغيرات المناخية باتت أكثر من 60% من المساحات المزروعة بالقطن تُزرع متأخرة، بين نهاية مايو ويونيو، في حين أن المواعيد المثلى تنتهي مطلع مايو، وهو ما يجعل المحصول رهناً بطول أو قِصر الموسم الصيفي ".
وأكد خضر في تصريحات صحفية أن المزارع لا يحصل على أي دعم، على عكس ما يحدث في أغلب دول العالم المنتجة للقطن، في ظل غياب دور الجمعيات الزراعية والإرشاد الزراعي الذي كان فاعلاً في الماضي.
وأشار إلى أن دولة العسكر أطلقت الحملة القومية للنهوض بزراعة وصناعة القطن عام 2017، لكنها لم تكتمل مع تغير وزراء زراعة الانقلاب، موضحا أن منظومة تداول القطن، التي كان من المفترض أن تديرها دولة العسكر مرحليًا قبل نقلها للقطاع الخاص، تحولت إلى نظام قاصر على تداول المحصول فقط، ولم تحقق الحياد والشفافية المرجوة .
وأوضح خضر أن المنظومة تعتمد على جمع القطن من الفلاحين وطرحه في مزادات أمام الشركات، إلا أن هذه الشركات تواجه أعباءً مالية كبيرة، منها ارتفاع الفائدة البنكية، ما يدفعها أحيانًا للعزوف عن الشراء، بينما يرفض الفلاح البيع بأسعار لا تغطي تكاليفه.
المساحة المزروعة
وأشار إلى أن الحكومة تدخلت العام الماضي بإعلان أسعار ضمان، لكنها لم تُنفذ بمرونة، فتأخر صرف مستحقات المزارعين لعدة أشهر، إذ لم يحصل كثيرون حتى الآن على كامل مستحقاتهم، وأدى ذلك إلى تراجع المساحة المزروعة بالقطن هذا العام إلى نحو 195 ألف فدان مقارنة بأكثر من 314 ألف فدان العام الماضي.
وأضاف خضر: مصانع الغزل والنسيج، التي كان مقرراً تشغيلها بكامل طاقتها بحلول نهاية 2024، لم يكتمل تشغيلها سوى في مصنعين بالمحلة، ما قلل من استهلاك القطن محليًا.
وأكد أن القطن طويل التيلة يمثل فقط 3% من الإنتاج العالمي ويُعد قطنًا فاخراً، بينما الصناعة العالمية تعتمد أساساً على الأقطان القصيرة .
وانتقد خضر قرار تحديد حصة للتصدير قبل موسمين مؤكدا أن هذا القرار كان كارثيًا، إذ تسبب في تكدس المخزون وفقدان الثقة بالقطن المصري في الأسواق الخارجية، بعدما لجأ المستوردون إلى بدائل أخرى خاصة أن الاستهلاك المحلي لا يتجاوز 400 ألف قنطار، بينما الإنتاج قد يصل إلى 2 أو 2.5 مليون قنطار، ما يجعل الاعتماد الأكبر على التصدير .
وقال: إن "الحل يكمن في الإسراع بتطوير مصانع الغزل لزيادة الاستهلاك المحلي وإضافة قيمة مضافة، مع تقديم تسهيلات للتصدير، خاصة فيما يتعلق بسعر الفائدة على قروض شراء المحصول، مشددًا على أن استمرار تحميل القطن أعباءً مالية كبيرة يدفع المزارع إلى هجر زراعته والاتجاه إلى محاصيل أخرى مثل الأرز، وهو ما يشكل تهديداً للزراعة والاقتصاد معاً".
كوارث متتالية
وأكد الدكتور طارق أبو موسى، أستاذ الاقتصاد الزراعي بمركز البحوث الزراعية، أن القطن تعرض لكوارث متتالية خلال السنوات الأخيرة، ، وشهد العام الماضي تحديداً أزمة غير مسبوقة؛ إذ ترك بعض المزارعين المحصول في الأرض دون جني، بل إن آخرين لجأوا لاستخدامه كعلف للأغنام لعدم جدوى حصاده، نتيجة انخفاض الأسعار من ناحية، وتعرضه لإصابات حشرية وفطرية وفيروسية، فضلاً عن تأثير التغيرات المناخية وضعف بعض الأصناف المزروعة .
وقال أبو موسى في تصريحات صحفية: إن "أزمة القطن تفاقمت مع آليات التسويق الحالية التي تعتمد على المزادات بعد تحرير تسويق المحاصيل، حيث دخل القطاع الخاص بقوة وأصبح ينافس دولة العسكر، مما أربك السوق وأضر بالمزارعين، وهو ما ظهر خلال الموسم المنتهي حين رفضت شركات القطاع الخاص سعر الضمان المحدد من قبل حكومة الانقلاب، وهو 10 آلاف جنيه لقنطار القطن وجه قبلي و 12 ألف جنيه لقطن الوجه البحري، بالرغم من أن هذا السعر غير عادل وفقًا لتقديرات الإنتاجية والتكاليف الفعلية للعام السابق، مما اضطر الهيئة العامة للأقطان إلى شراء القطن لحسابها".
وكشف أنه إلى الآن لم يتم سداد باقي ثمن القطن للمزارعين، ونتيجة لهذا التخبط وعدم وجود سياسة زراعية واضحة فيما يخص إنتاج وتسويق محصول القطن تتقلص المساحة المزروعة عامًا بعد آخر، كنا نزرع مليون فدان قطن في عقد الثمانينات، والمساحة تراجعت إلى 500 ألف فدان في أوائل عام 2000 ثم تراجعت إلى 200 ألف فدان عام 2024 .
وأشار أبو موسى إلى أن المحاصيل الزراعية تواجه أزمة كبيرة، خاصة المحاصيل الاستراتيجية مثل القمح والقطن والذرة وفول الصويا، بالإضافة إلى محاصيل الخضر، موضحًا أن هذه المحاصيل لا تحقق للمزارع هامش الربح العادل الذي يشجعه على الاستمرار في زراعتها، رغم أهميتها القصوى للاقتصاد والأمن الغذائي.
وأكد أن التغيرات المناخية تسببت في ظهور وانتشار آفات جديدة وأمراض فطرية وفيروسية، مثل: حشرة “الجسيد” التي أضرت العام الماضي بمحصول القطن، موضحًا أن غياب الرقابة الكافية على سوق المبيدات والأسمدة فاقم الأزمة، حيث تُباع للمزارعين منتجات غير فعالة أو مغشوشة، مما يكبدهم خسائر كبيرة.
وشدد أبو موسى على ضرورة تدخل دولة العسكر لضبط السوق الزراعي، من خلال استخدام أدواتها السياسية والاقتصادية والمالية لحماية المزارع من تقلبات السوق وجشع بعض التجار، عبر توفير مستلزمات الإنتاج بأسعار مناسبة، وضمان شراء المحصول بسعر عادل، حتى لا يُترك المزارع وحيداً في مواجهة الأزمات.
