مع اقتراب انتخابات مجلس نواب السيسي المزمع أجراءه في نوفمبر المقبل، تشهد الساحة الحزبية والسياسية حَرَكة مكثفة وتحالفات استباقية، في ظل توقعات بأن يظل التنافس الداخلي مُشكَّلًا ضمن مناخ مُحرَّف لصالح الأحزاب الموالية، وبدأت التحالفات تستقر، والقوائم الوطنية تُعَدُّ مسبقًا، مع مساعٍ واضحة لضخ شخصيات ذات وزن أمني أو عسكري في مواقع بارزة داخل القوائم الفردية والقائمة المشتركة.
في هذا السياق أعلن ما يسمى بالتحالف الوطني للأحزاب خوضه المنافسة على المقاعد الفردية عبر قائمة موحدة تُضم نحو 15 حزبًا من أصل 42 في التحالف كما أن القائمة الوطنية “من أجل مصر” التي تضم 12 حزبًا، بينها أحزاب بارزة مثل مستقبل وطن وحماة الوطن والجبهة الوطنية، أصدرت أسمائها للمرشحين في مختلف المحافظات.
وعلى مستوى القوائم الحزبية، يُلاحَظ أن الأحزاب المهيمنة الآن، مثل مستقبل وطن وحماة الوطن والجبهة الوطنية تسعى لضم مرشحين من ذوي خلفيات أمنية وعسكرية إلى قوائمها، على الأقل في الدوائر التي يُحتمل أن تكون فيها المنافسة أقوى .
على الصعيد الفردي، يتوقع مراقبون أن بعض الضباط المتقاعدين أو من كانوا في أجهزة أمن الانقلاب قد يُدرَجون كمرشحين مستقلين أو عبر القوائم في دوائر يُحسب فيها تأثيرهم المحلي.
عسكرة السياسة
يشار إلى أنه منذ الانقلاب الدموي في عام 2013، وسعت دوائر أمن الانقلاب والعسكر سلطتهم على المشهد السياسي ، ليس فقط من خلال التدخل المباشر باختيار قيادات الأحزاب أو مرشحيها للانتخابات، وإخضاعهم لمراجعة أمنية دقيقة، لكن بدفع عدد من العسكريين والقيادات الأمنية السابقين نحو المعترك السياسي، من خلال تدشين الأحزاب، أو المشاركة في قيادتها، والاستحواذ على نسبة من تمثيلها البرلماني.
هذه التحركات تؤكد ما تشهده مصر عقب مرحلة ما بعد 30 يونيو من انتقال نحو ”عسكرة السياسة”، أو سيطرة القيادات ذات الخلفية العسكرية والأمنية على مفاصل المجال الحزبي والبرلماني، إلى درجة بات فيها حضورهم جزءًا أصيلًا من بنية النظام السياسي.
التحول نحو “عسكرة الحياة الحزبية” يأتي في صورة انخراط أفراد بعينهم من ذوي الرتب السابقين في الجيش أو الشرطة داخل البرلمان أو في مواقع حزبية قيادية، ويتجسد أيضًا في إعادة تشكيل الأحزاب نفسها على نحو يجعلها أذرعًا داعمة لسياسات الانقلاب، وفي مقدمتها حزب مستقبل وطن الذي صار القوة المهيمنة على البرلمان، وحزب حماة الوطن الذي تأسس على يد قيادات عسكرية سابقة وأصبح بمثابة واجهة سياسية للعسكر.
أحزاب صورية
حول هذا التوجه قال سيف الإسلام عيد باحث في الشئون السياسية بالمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، إنّ صعود القيادات العسكرية والأمنية داخل الحياة الحزبية بعد عام 2013 يرتبط بمجموعة من العوامل البنيوية التي أعادت تشكيل المجال السياسي، موضحا أنّ العامل الأول يتمثل في الثقة التي يمنحها نظام الانقلاب لهذه الفئة القادمة من المؤسسة العسكرية التي تحكم البلاد فعليًا، إذ ينظر إليها باعتبارها أكثر جدارة وولاءً من المدنيين، وأكثر قدرة على الالتزام بالخطوط العامة التي يحددها الانقلاب.
وأضاف عيد في تصريحات صحفية : العامل الثاني يتعلق بالعلاقة التبادلية التي تنشأ بين الطرفين، حيث يضمن نظام الانقلاب لهؤلاء الضباط السابقين مكانًا ودورًا بعد خروجهم من الخدمة العسكرية أو الأمنية، بينما يقدمون له في المقابل الولاء والانضباط والانخراط في ما يطلق عليه الحياة الحزبية الشكلية.
وأكد أنّ الحديث عن تعددية حزبية أو ديمقراطية بالمعنى المتعارف عليه عالميًا غير ممكن في السياق المصري الراهن، مشيرًا إلى أن ما يجري هو مجرد هندسة سياسية تهدف إلى إنتاج أحزاب صورية تسعى لتجميل صورة النظام خارجيًا، دون أن تعكس بالفعل تعددية أيديولوجية أو اجتماعية حقيقية.
واشار عيد إلى أن هذه الأحزاب لا تؤدي دورًا تمثيليًا للمجتمع، وإنما تُنشأ أساسًا لتكون داعمة لدولة العسكر أو للسيسي، وهو ما يميز الحالة المصرية عن غيرها من التجارب.
نخب ضيقة
وأوضح أنّ الأحزاب الحقيقية في النظم الديمقراطية من المفترض أن تعبر عن مصالح وشرائح اجتماعية واقتصادية وثقافية مختلفة، لكن ما يحدث في مصر هو العكس تمامًا؛ حيث تقتصر هذه الأحزاب على تمثيل مصالح نخب ضيقة متحالفة مع السلطة أو خاضعة لتوجيهات أجهزة أمن الانقلاب.
ولفت عبد إلى أن حزب “مستقبل وطن” تمكن من فرض هيمنته السياسية باعتباره الأقرب إلى الأجهزة النافذة، قبل أن يبرز لاحقًا حزب “الجبهة الوطنية” المدعوم من دوائر أخرى في سلطات الانقلاب، مؤكدا أن هذا الصعود والهبوط لا يعكس تغيرات طبيعية في الخريطة الحزبية كما يحدث في الديمقراطيات، بل يعكس تحركات محسوبة من جانب سلطات الانقلاب لإعادة توزيع النفوذ وتوجيه المشهد السياسي في الاتجاه الذي يخدم مصالحها.
كيانات مصطنعة
واعتبر أكرم إسماعيل العضو المؤسس لحزب العيش والحرية أن الواقع الحالي متسق مع طبيعة المرحلة كلها، حيث فُتحت أبواب السياسة والاقتصاد أمام ضباط سابقين ومن خدموا في أجهزة أمن الانقلاب، ليكون لهم دور كبير في الحياة العامة، لكن الأهم من ذلك هو أن الأحزاب التي تشكلت في هذه المرحلة هي في جوهرها كيانات مهندسة للغاية فهي ليست أحزابًا حقيقية، ولا أحزابًا نابعة من الشارع أو تعبر عن قواعد جماهيرية، بل كيانات مصطنعة بالكامل .
وقال إسماعيل في تصريحات صحفية : "بما أن نظام الانقلاب نفسه لا يتيح نشوء أحزاب طبيعية مرتبطة بالجمهور، يصبح من الطبيعي أن تكون رموز هذه الأحزاب أشخاصًا مرتبطين بنظام الانقلاب مباشرة موضحا أن الرموز في التجارب الحزبية الطبيعية تُنتَج محليًا من النقابات والجامعات والشارع، أما في مصر فهي نتاج عملية هندسة من أعلى، حيث تُمنح الأولوية لمن يملكون الولاء أو ينتمون إلى شبكات النفوذ القريبة من سلطات الانقلاب" .
وشدد على أن غياب الأحزاب الحقيقية المرتبطة بالجمهور يحوّل المجال السياسي إلى ساحة مغلقة، تُصنع رموزها وفق أهداف محددة مسبقًا، معتبرا أنه ليس مستغربًا أن يكون أغلب هذه الرموز من الضباط السابقين أو من شخصيات لها ولاء مباشر لنظام الانقلاب.
وحول التداعيات المستقبلية لحالة الإغلاق السياسي، أوضح إسماعيل أن المجتمع ودولة العسكر يضعفان بقدر ما تضعف مؤسساتهما، لافتا إلى أن المجتمع القوي هو الذي يملك نقابات وأحزابًا وتنظيمات قادرة على التفاوض مع السلطة وإدارة الأزمات من دون انفجار أما المجتمع الضعيف، المحروم من هذه الأدوات، فهو مجتمع مهدد في استقراره وانتقال السلطة داخله محفوف بالمخاطر .
وشدد على أنه طالما يُمنع المجتمع من امتلاك أدواته التنظيمية، سيبقى في مهب الريح، وهذا ما رأيناه بوضوح في انهيار مجتمعات ودول مجاورة، لأنها كانت ضعيفة ومحرومة من تنظيمات سياسية ونقابية فاعلة.