بالرغم أن قطر تؤكد دائماً أن علاقاتها مع واشنطن تقوم على الشراكة لا التبعية، فإن طبيعة الاتفاقيات الأخيرة، وحجم التنازلات المالية والعسكرية، تفتح الباب أمام قراءة مغايرة لما كان يُعتقد سابقاً. إذ يرى مراقبون أن أمير قطر – مدفوعاً بهواجس أمنية وإقليمية – اختار أن يندمج في المنظومة التقليدية للخليج، على حساب صورته كقائد شاب مستقل، وهو ما يصعب على أدوات الإعلام وحدها ترميمه، بعد أن أصبحت الأرقام والمواقف أكبر من أي دعاية.
وقد أثارت زيارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب الأخيرة إلى منطقة الخليج تساؤلات واسعة حول الدور القطري الجديد، بعدما أعلنت واشنطن عن حزمة اتفاقيات ضخمة مع الدوحة تتجاوز قيمتها 1.2 تريليون دولار، بينها عقود دفاعية وتجارية واستثمارية ومالية.
لكن اللافت، بحسب محللين، ليس فقط حجم الأرقام، بل ما تمثله هذه الصفقات من دلالة على التحول السياسي لأمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، الذي طالما روج له الإعلام القطري كقائد مستقل عن الوصاية الأميركية والخليجية، بينما تعكس اتفاقيات ترامب واقعاً جديداً مفاده أن الأمير انضم عملياً إلى محور "شراء الرضا الأميركي" كما تفعل باقي الأنظمة الخليجية، وفق تعبير محللين غربيين.
اتفاقيات غير مسبوقة: طائرات وأسلحة واستثمارات
بحسب بيان للبيت الأبيض، فقد وقّعت قطر والولايات المتحدة صفقات بقيمة تزيد عن 243.5 مليار دولار، أبرزها:
طلبية شراء 210 طائرات بوينغ 787 دريملاينر و777X تعمل بمحركات جنرال إلكتريك، بقيمة 96 مليار دولار، وُصفت بأنها "أكبر طلب للطائرات العريضة في تاريخ بوينغ"، وستوفر أكثر من مليون وظيفة أميركية طوال مدة التنفيذ.
شركة بارسونز الأميركية حصلت على عقود بـ30 مشروعاً قيمتها نحو 97 مليار دولار.
اتفاقية بين شركة كوانتينيوم وشركة "الربان كابيتال" القطرية لاستثمار مليار دولار في تطوير تقنيات الحوسبة الكمية داخل الولايات المتحدة.
عقود للطائرات بدون طيار (درونز) من شركتي رايثيون وجنرال أتوميكس بقيمة تقارب 3 مليارات دولار.
دعم عسكري وأمني بقيمة 38 مليار دولار، يشمل قاعدة العديد الجوية وملفات دفاع جوي وأمن بحري.
استمرار استثمارات قطر للطاقة داخل أميركا بقيمة 18 مليار دولار.
تحليلات غربية: هل دفعت قطر "ثمن الحماية"؟
صحف ومراكز أبحاث غربية لم تتردد في اعتبار هذه الاتفاقيات بمثابة "جزية حديثة" تدفعها الدوحة لتجديد تحالفها الاستراتيجي مع واشنطن، خصوصاً بعد تراجع أدوارها الإقليمية في ملفات مثل الوساطة مع طالبان أو حماس.
في تقرير نشرته مجلة فورين بوليسي، اعتبر الباحث الأميركي مايكل روبن أن "قطر لم تعد تحاول الظهور بمظهر الدولة المتمردة داخل مجلس التعاون، بل باتت تحاكي سلوك الرياض وأبو ظبي في شراء النفوذ عبر المال". وعلّق قائلاً: "تميم بات أكثر حرصاً من غيره على استرضاء واشنطن، وربما تجاوزهم جميعاً في قيمة ما أنفقه".
من جهته، قال موقع Responsible Statecraft الأميركي إن الدوحة "استخدمت أموال الطاقة لشراء القبول الأميركي بعد سنوات من التوتر، لكنها خسرت الكثير من صورتها في الشارع العربي، خاصة مع تورطها في صفقات تسليح ضخمة وسط الحرب الإسرائيلية على غزة".
سقوط الأسطورة الإعلامية: هل انتهت صورة تميم "القائد المختلف"؟
لفترة طويلة، قدمت قناة الجزيرة ومنصات قطرية عديدة الأمير تميم على أنه الزعيم الخليجي الأقرب إلى نبض الشعوب العربية، وراعي الديمقراطية والثورات في وجه الأنظمة التقليدية. لكن الاتفاقيات الأخيرة، وحجم الأموال التي سُخّرت لصالح الاقتصاد الأميركي والدفاع الأميركي، فجرت ردود فعل غاضبة على وسائل التواصل الاجتماعي.
وكتب الكاتب الفلسطيني ياسر الزعاترة: "حين يدفع أمير قطر هذا الكم من ثروات بلاده في صفقات تسليح وتطبيع أمني مع واشنطن، في ذروة حرب غزة، يسقط كل ادعاء بالاستقلال أو التميز. لقد اختار الطريق ذاته الذي سلكه الآخرون".
ويؤكد الصحفى عبد الرحمن يوسف أن "الجزيرة لا تستطيع اليوم إقناع أحد بأن أمير قطر مختلف، لأن الواقع الاقتصادي والسياسي يقول إنه بات شريكاً في منظومة استنزاف الشعوب من أجل رضا البيت الأبيض".
