بقلم: يحيى الكبيسي
كتب أستاذ علوم سياسية مصري معروف، وعضو معين غير منتخب في مجلس الشورى المصري، ومن أبرز منظري الانقلاب العسكري في مصر، وهو مشهور بموقفه الواصف للتظاهرات مدفوعة الثمن التي قام بها ما كان يطلق عليهم بفلول مبارك بأنها “ثورة مضادة”، مقالا ميَّز فيه بين ما يسميه “الأذى” وبين “المقاومة”، وأن الأذى أمر مؤقت، بينما المقاومة استراتيجية طويلة البال، متعددة الأوجه، صريحة الهدف، قوية العقيدة، شديدة المراس، خطوتها الأولى وحدة وطنية، وهو ما حققته حركات التحرر الوطني، مثل جبهة التحرير الجزائرية، وجبهة التحرير الفيتنامية.
وبعيدا عن اللغة الإنشائية التي استخدمها أستاذ العلوم السياسية الشهير لتوصيف المقاومة، والتي لا تحيل إلى معنى، سوى إدانة حماس فإن النموذجين اللذين استخدمهما يفضحان الرغبة في الخداع وليس التوضيح.
في الجزائر، وعقب انطلاق الثورة الجزائرية عام 1954، عمد مصالي الحاج، الذي كان يلقب بأبي الأمة وأبي الوطنية، في السنة نفسها إلى تشكيل “الحركة الوطنية الجزائرية”، والتي اشتهرت شعبيا بعنوان “الحرْكة” (بتسكين الراء)، قاتلت ضد جبهة التحرير، وحظيت بدعم مباشر من الفرنسيين.
وقد شكلت الحرْكة قوة مسلحة تحت عنوان “الجيش الوطني الشعبي الجزائري” بقيادة محمد بلونيس، الذي عقد اتفاقا مع الفرنسيين في 6 نوفمبر 1957، كان من أبرز فقراته: التأكيد على أن تبقى الجزائر مرتبطة بفرنسا، بصيغة استقلال ذاتي وإدماج تام، فضلا عن تعهد بالقضاء على جبهة التحرير الجزائرية.
وفي دراسة أكاديمية حول الحركة الوطنية الجزائرية (المصالية) النشأة والموقف من الثورة والصراع مع جبهة التحرير الجزائرية 1954 ـ 1962 نقرأ ما يأتي، إن الصراع بين الحركة الوطنية الجزائرية وجبهة التحرير الوطني كان عنيفا ومأساويا، وتشير الدراسة إلى أن مصالي الحاج وجه رسالة إلى الشعب الجزائري يندد فيها بالحرب والقمع، ويتهم جبهة التحرير بأنهم مغامرون.
أما في فيتنام، فلم يكن هناك شيء اسمه “وحدة وطنية” من الأصل؛ لأن الصراع كان قائما بين الجبهة الوطنية لتحرير جنوب فيتنام الشيوعية “الفيت كونغ”، وبين الجيش الجمهوري الفيتنامي المدعوم من الولايات المتحدة الأمريكية.
بالعودة إلى تنظير أستاذ العلوم السياسية هذا، نقرأ أيضا: “الأذى يوجد فقط للحاجة النفسية، أما المقاومة فهي استراتيجية لطرد مستعمر أو غاز أو طاغية، وثانيا وهو الأهم قيام الدولة المستقلة الواحدة لشعب بعينه، وهي عملية صبورة لا تقطعها “حماس” بعد توقيع اتفاقية أوسلو الذي أقام أول سلطة فلسطينية على الأرض الفلسطينية في التاريخ، وأن القيادة السياسية، وهي هنا منظمة التحرير الفلسطينية حصرا من وجهة نظره، هي التي تمتلك استراتيجية الحرب والسلام، واستخدام الدبلوماسية للتفاوض أو السياسة لبناء التحالفات أو الحرب، شاملةً كانت أو جزئية، دائمةً أو مرحلية؛ لأن عليها أن تَقِيس توازنات القوى بدقة بين طرفَي الصراع.
إن عبارة دولة مستقلة واحدة لشعب بعينه، كتبت بقصدية واضحة هنا، وهي تعريض ضمني بحركة حماس، فهي تقول ضمنا بأن حماس، بصفتها حركة تنتمي إلى الإسلام السياسي، ليست “حركة تحرر وطني”، وبالتالي لا ينطبق عليها توصيف المقاومة، والواقع أنه خطاب مطروح كثيرا اليوم يتهم حماس بأنها قامت بتهجين خطابها الديني بآخر وطني واستخدمت مصطلحات المقاومة بديلا عن مصطلح الجهاد.
لا يمكن عزل هذا الخطاب عما أسميناه في مقالة سابقة “شيزوفرينيا الليبراليين العرب”، الذين يشيطنون الحركات الإسلامية وفقا لتحيزاتهم الشخصية المسبقة، أو وفقا لطبيعة الخطاب التي تتبناه دولهم كما في حالة أستاذ العلوم السياسية المصري الذي اتهم حماس في لقاء تلفزيوني جرى عام 2021، بأنها تشكل عقبة رئيسية في قيام الدولة الفلسطينية، مع أن الحركة كانت قد أقرت في ميثاقها الجديد عام 2017 بقبولها بفكرة قيام دولة فلسطينية على الأراضي التي احتلتها إسرائيل في حرب عام 1967.
المفارقة هنا أن هؤلاء المتنورين ينظرون حول شرعية الانقلاب الذي حصل في مصر ثم تونس، الذي أزاح خصومهم الإسلاميين، ولا يجدون حرجا في التناقض بين هذا الطرح وبين مفهوم الديمقراطية التي يبشرون بها.
إن هذا الربط المتعسف بين الأيديولوجيا والمقاومة، لا علاقة له بالمقولات والمنهجيات المتعلقة بالمقاومة، بل إن هدفه سياسي بحت، فهم يسعون إلى صناعة “كتالوغ” ينفي عن حركات الإسلام السياسي صفة “المقاومة” أولا، ومن ثم ينفي حقها في “مقاومة الاحتلال” وهي محاججة متحيزة لا تلتفت إلى فعل الاحتلال نفسه، أو الاحتلال الاستيطاني كما في الحالة الفلسطينية.
وهذا يعني أن الحق في المقاومة ليس حقا أصيلا للمواطن الواقع تحت الاحتلال، بل هو حق قابل للتحويل، وقابل للتجزيء، وغير متساو وتمييزي، وبالتالي يمكن تأويله تبعا للتحيزات، وتبعا لوجهات النظر الشخصية، وأن هذا الحق يرتبط بايديولوجيا المواطن نفسه؛ فالمواطن غير المنتمي إلى الإسلام السياسي لديه حق في المقاومة، فيما يسقط هذا الحق عن المنتمي للإسلام السياسي.
يؤكد قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 3103 الصادر في 12 كانون الأول/ ديسمبر 1973 المتصل بالمبادئ الأساسية المتعلقة بالمركز القانوني للمقاتلين الذين يكافحون السيطرة الاستعمارية والأجنبية والنظم العنصرية أن استمرار الاستعمار بجميع أشكاله ومظاهره يعد جريمة.
ويقرر في مادته الأولى على «أن كفاح الشعوب الخاضعة للسيطرة الاستعمارية والأجنبية والنظم العنصرية في سبيل إقرار حقها في تقرير المصير والاستقلال هو كفاح مشروع يتفق مع مبادئ القانون الدولي»، وأن «المنازعات المسلحة التي لها دخل بكفاح الشعوب ضد السيطرة الاستعمارية والأجنبية والنظم العنصرية تعتبر منازعات مسلحة دولية بالمعنى الوارد في اتفاقية جنيف لعام 1949، كما أن المركز القانوني المستهدف سريانه على المقاتلين في اتفاقية جنيف لعام 1949 وفي سائر الوثائق الدولية يعتبر ساريا على الأشخاص الضالعين بكفاح مسلح ضد السيطرة الاستعمارية والأجنبية والنظم العنصرية.
وهذا التوصيف ينطبق بالكامل على الشعب الفلسطيني ككل، وعلى المقاتلين الفلسطينيين ككل، بمعزل عن الانتماءات الأيديولوجية أو السياسية.
يمكن للمرء أن يكون له موقف معارض لحركات الإسلام السياسي بالمجمل، وأن يكون لديه اعتراضات موضوعية على سياسات حماس وسلوكها، لكن هذا لا يعطي الحق لأي شخص، كائنا من كان، أن ينزع عن حماس صفة المقاومة، أو أن يفرض نفسه وصيا على خيارات الفلسطينيين، أو أن يجعل تحيزاته الشخصية هي المعيار في الحكم على الأشياء.