هناك إجماع شرعى على وجوب مقاطعة المنتجات الأجنبية التى يمكن أن تساعد الكيان الصهيونى وتسىء إلى مصالح الفلسطينيين، وقد صدرت فتاوى عن عشرات من علماء الأمة الثقات ومؤسساتها وهيئاتها الدينية منذ نشأة هذه الكيان وحتى أحداث طوفان الأقصى فى أكتوبر ألفين وثلاثة وعشرين؛ فقد اعتبرها الشيخ «محب الدين الخطيب»: (أمضى سلاح بأيدى العرب، وهى عنوان الرجولة والحزم، والأمة التى تثبت على مقاطعة من يسىء إليها تشعر الأمم كلها بالحرمة لها، وفى مقدمة من يحترمها أعداؤها).
أما الدكتور «يوسف القرضاوى» فقد أفتى بحرمة من يشترى بضائع الصهاينة والداعمين لهم بقوله: (إن كل من اشترى البضائع الإسرائيلية والأمريكية من المسلمين فقد ارتكب حرامًا، واقترف إثمًا مبينًا، وباء بالوزر عند الله، والخزى عند الناس)، وتبنى «الأزهر الشريف» هذا الرأى فى كل مراحل القضية، وكذلك «دار الإفتاء المصرية»، وأكد «الاتحاد العالمى لعلماء المسلمين» مرارًا وجوب المقاطعة، وفى آخر فتوى له، والصادرة يوم الثامن من نوفمبر عام ألفين ثلاثة وعشرين، أكد (أنها تضعف العدو، وتضغط عليه شعبيًّا، وتفوّت مصالحه الشاملة، وهى نوع من الجهاد المبرور، ومن الميسور المقدور عليه).
ويشوّش البعضُ على حملات المقاطعة بعدة شُبهات؛ منها: عدم قدرة المسلمين عن الاستغناء عن الآخر فى ظل التدهور السياسى والاقتصادى الذى يعيشونه فى بلدانهم، وأن هذه المقاطعة ستلحق الضرر بالعمالة المحلية، وأن السلع المعلن عن مقاطعتها سلعٌ استهلاكية ثانوية غير ضرورية، وأنها تمنع عنّا استثمارات ضخمة.. ويمكن الرد على هذه الشبهات بالتأكيد على أن الواقع يؤكد عكس ذلك، وأنه بالفعل تم الاستغناء عن الآخر، وما فعلته «حماس» رغم الحصار، وما أنتجته من سلاح يؤكد أن الإرادة تصنع المستحيل، ونؤكد أيضًا أن المقاطعة فعل جهادى مقاوم يلزمه تضحيات، وأمتنا ليست بدعًا من الأمم التى أُضيرت فى ناحية لكنها تحررت فى سائر نواحيها، بل إن ما أُضيرت فيه أُمكن تعويضه سريعًا بعدما استقلّت وتخلصت من وباء الاحتلال والتبعية.
ولا ننسى أن المقاطعة تنقل المعركة إلى عمق هذا الكيان؛ لما وقر فى نفوس اليهود من تعظيم المال وعبادة الثروة، لقد أحدثت فعاليات المقاطعة تأثيرًا مباشرًا على كيانات اقتصادية كبيرة فى منطقة الشرق الأوسط، فأغلقت فروعها، وقلّصت تعاملها وسحبت استثماراتها من إسرائيل، وفى تصريح لرئيس الكيان السابق «شيمون بيريز» يقول: (إسرائيل أمام فرصة للحصول على مكانة خاصة عند الاتحاد الأوروبى، وكذلك فإن جامعة الدول العربية تدرك أن إسرائيل لم تعد هى العدو، لكن لا تخطئوا؛ فإن المقاطعة الاقتصادية أشد خطرًا على إسرائيل من التهديد الأمنى)، أما رئيس وزراء الكيان السابق «يائير لبيد» فيقول: (إن عدم الشعور بتأثير المقاطعة حاليًّا سببه أنها عملية تدريجية، لكنّ الوضع الحالى خطير جدًّا، فنظام الفصل العنصرى فى جنوب إفريقيا لم يتنبه إلى بداية حملة المقاطعة التى تعرض لها).
ولا شك أن هناك العديد من العقبات التى تواجه حملات المقاطعة؛ منها: غياب المؤسسية عن أداء المجتمع الأهلى، وحالة الفصام بين الشعوب والحكومات ومنشؤها حالة الديكتاتورية والاستبداد السائدة فى العالم العربى، فضلًا عن الأساليب والوسائل التى تتبعها الدول والشركات للتخفيف من آثار المقاطعة… ورغم هذه العقبات فقد تحقق العديد من الفوائد والمكتسبات؛ فالحقيقة أن المقاطعة تحاصر العدو نفسيًّا، وتهزّهُ اقتصاديًّا، وتؤثر بشكل كبير على داعميه؛ ففى الأيام الأولى لحرب «طوفان الأقصى» تراجعت مبيعاتُ شركة «ماكدونالدز» فى مصر بنسبة سبعين بالمائة، وبالمثل مقاهى «ستاربكس»؛ ما يجعل هؤلاء الداعمين يفكرون ألف مرة قبل دعم المحتلّ.
ومن المؤكد أيضًا أن شيوع ثقافة المقاطعة يمنح فرصة أكبر لانتشار المنتج الوطنى، غير الأدوار التربوية والقيمية التى تؤديها الحملات الشعبية، خصوصًا لدى النشء الذى تجاوب معها بشكل كبير، وما فى ذلك من ترسيخ معانى العزة، والاستغناء عن سلع بعينها فى سبيل نُصرة إخوتنا وصوْن كرامتنا، وألّا نكون أسرى بطوننا وشهواتنا، وقد وحّدت المقاطعة الشعوب العربية والإسلامية، واستدعت قضاياها المصيرية إلى الواجهة، ونبّهتهم إلى مواضع الضعف التى تعانيها الأمة، وهى لا شك من دواعى اليقظة والشوْق إلى التحرر والاستقلال.