في مشهد يكرّس منطق الإدارة بالأوامر، عقد رئيس حكومة الانقلاب مصطفى مدبولي اجتماعاً جديداً لما يسمّى "متابعة مستجدات تحديث وثيقة ملكية الدولة"، وسط تقديرات تؤكد أن الهدف الحقيقي هو حصر ما تبقى من ممتلكات الشعب المصري تمهيداً لعرضها للبيع أمام الإمارات وغيرها من دول الخليج، سعياً لجلب أي سيولة تسهم في سداد أقساط الديون الخارجية وخدمة الدين التي باتت تبتلع معظم الموازنة، بعدما عجزت الحكومة فعلياً عن تدبيرها.
وثيقة "ملكية الدولة": من إصلاح اقتصادي إلى قائمة تصفية
وعلى الرغم من الخطاب الرسمي الذي يكرر الحديث عن "تعظيم دور القطاع الخاص" و"تحسين تنافسية الاقتصاد"، فإن الاجتماعات المتتالية تشير إلى دخول وثيقة ملكية الدولة مرحلة "التسييل الشامل" لموارد المصريين، في ظل غياب أي دور برلماني أو رقابي، وهيمنة مطلقة للمؤسسة العسكرية التي تحولت – وفق مراقبين – إلى الشريك الأكبر في كل ملفات البيع والاستحواذ والخصخصة، مع غياب المحاسبة وتراجع الشفافية.
حضر الاجتماع وزيرة التخطيط رانيا المشاط، ووزير الاستثمار حسن الخطيب، إضافة إلى عدد من المسئولين، بينما كرر مدبولي الحديث عن "المتغيرات الجيوسياسية"، لتبرير تحديث الوثيقة بما يسمح بتوسيع نطاق الطروحات الحكومية.
تجهيز الشركات للبيع… وتوسيع نفوذ “وحدة الهيكلة”
وناقش الاجتماع موقف الشركات الجاهزة للطرح خلال الفترة المقبلة، والهيكل التنظيمي لوحدة إعادة هيكلة الشركات المملوكة للدولة، برئاسة مساعد رئيس الوزراء هاشم السيد، وهي الوحدة التي أصبحت الذراع التنفيذية لعملية إعداد الشركات الحكومية للخصخصة، وإعادة هيكلة أصول الدولة بما يتوافق مع المطلوب من الجهات المانحة وعلى رأسها صندوق النقد الدولي.
ورغم تأكيد الحكومة "عدم المساس بالأصول الاستراتيجية"، إلا أن الواقع – كما يرى خبراء اقتصاد – يشير إلى أن تعريف "الاستراتيجي" يتقلص مع كل زيارة لبعثات الصندوق، وكل أزمة سيولة جديدة، وأن الهدف الواضح هو تمكين الصندوق السيادي من إعادة بيع الأصول، تحت لافتة "تعظيم العائد".
صندوق النقد يدخل على الخط: لا قروض جديدة بدون بيع واسع للأصول العامة
الاجتماع جاء قبيل استقبال مدبولي لوفد فني رفيع من صندوق النقد الدولي، يصل القاهرة وسط توتر واضح في أسواق المال، وترقب لنتائج مباحثات تعطلت خمسة أشهر بسبب رفض الحكومة الالتزام الكامل بخطة الخصخصة التي يطالب بها الصندوق، بما يشمل شركات سيادية وحيوية.
تقرير المراجعة الرابعة للصندوق انتقد بشدة "التباطؤ" في برنامج بيع الأصول، وخفض توقعاته لحصيلة الخصخصة من 3 مليارات دولار إلى 600 مليون فقط للعام المالي 2024/2025، ما يعكس حجم التعثر وفقدان الثقة.
وتسعى الحكومة لانتزاع اتفاق سريع قبل 12 ديسمبر يسمح بصرف 2.7 مليار دولار متوقفة منذ منتصف 2023، إضافة إلى 274 مليون دولار من حزمة "الصلابة والاستدامة". لكن خبراء يؤكدون أن الصندوق لن يفرج عن أي تمويل قبل ضمان التزام السلطة بتوسيع مشاركة القطاع الخاص ووقف توسع الجيش في الاقتصاد، وهي الشروط التي باتت القاهرة عاجزة عن تلبيتها على أرض الواقع.
بيع الأصول لتمويل “هوس العاصمة الإدارية”
ورغم الانهيار الاقتصادي وغياب السيولة، يواصل السيسي، وفق مراقبين، الانشغال بمشروعات ترفيهية مكلفة، كان آخرها الإعلان عن تأسيس "مدينة جديدة للإنتاج الإعلامي" في العاصمة الإدارية، ما يزيد من الأعباء المالية ويكشف أولويات مقلوبة لا تتناسب مع بلد غارق في الديون.
يرى محللون أن اللهث وراء بيع ممتلكات المصريين يأتي ليس فقط بسبب ضغط الديون، بل أيضاً بسبب الإصرار على تمويل مشروعات شخصية تتعلق بالصورة والهيبة، لا بالعائد الاقتصادي أو احتياجات المواطنين، بينما تستمر قيادات عسكرية نافذة في إدارة قطاعات اقتصادية كاملة بمنأى عن الرقابة والمساءلة.
غياب البرلمان والصحافة… و"تجريد" ممتلكات المصريين بلا صاحب
في ظل برلمان صامت وصحافة محاصرة، تتوسع الحكومة في جرد الأصول العامة وكأنها بلا مالك، رغم أنها ملكية للشعب. وبينما تتعزز قبضة المؤسسة العسكرية على شركات البنية التحتية والعقارات والطاقة والطرق، تتجه الحكومة إلى بيع ما تبقى تحت شعار "تحديث وثيقة الملكية"، في سياق أزمة مديونية غير مسبوقة تجاوزت 160 مليار دولار.