بقليم / بيار عقيقي
على وقع محاولات إتمام اتفاق غزّة، وتوجّه الأنظار إلى القطاع الذي شغل العالم عامَين كاملَين، وترحيب الدول بالاتفاق، بقيت هناك، خلف خمس تلال وشريط حدودي بطول نحو 130 كيلومتراً، جبهة شمالية لا تعرف مآلها. إذا وضعنا جانباً التقارير الشهرية للجيش اللبناني بشأن حصر السلاح في الأراضي اللبنانية، التي صدر أولها الاثنين الماضي، وظلّ سرّياً بدرجة كبيرة في مجلس الوزراء، فإن مستقبل هذه الجبهة متوقّف عند مفترق طريقَين لا ثالث لهما: عودة الحرب أو الموافقة على ما ورد في قرارات الحكومة وبيانها الوزاري وخطاب القسم لرئيس الجمهورية. يمسك حزب الله بالقرارين، مرّة أخرى، بما يسمح بإبقاء قرار الحرب والسلم بيده وبيد إسرائيل، وبتغييب الدولة اللبنانية. كذلك، أيّ عودة للقتال لن تشبه ما حصل في العدوان الإسرائيلي على لبنان، بين سبتمبر/ أيلول ونوفمبر/ تشرين الثاني 2024، بل ستتعداها لفرض قواعد جديدة، تضيّق هامش الحركة للسلطات اللبنانية.
هذا واقع، بلا تجنّ ولا ترف. لن ينفع معه الحديث عن التلال الخمس المحتلّة إسرائيلياً في الجنوب اللبناني، ولا الكلام عن "تعافي حزب الله". يشبه الأمر "ربيع" عام 2024، حين همس الموفد الأميركي الأسبق عاموس هوكشتاين في آذان المسؤولين اللبنانيين، خصوصاً رئيس المجلس النيابي نبيه برّي، أنه يأمل "نزول حزب الله عن الشجرة" في حرب إسناد غزّة. لم يصدّق المعنيون، من مسؤولي حزب الله وقيادييه، هوكشتاين، إلى أن وقعت الحرب الشاملة. تبدو الأمور اليوم أقرب إلى التكرار. وحدة الساحات في الأصل انتهت عملياً بوقف إطلاق النار في الجبهة اللبنانية، في نوفمبر/ تشرين الثاني 2024، وهو ما تبدّى بشكل واسع خلال العدوان الإسرائيلي على إيران في يونيو/ حزيران الماضي، حين ظلّ حزب الله جانباً، من دون التورّط في هذه الحرب.
ما يحتاجه الحزب اليوم واقعية مطلقة، تبدأ من فهم ما قاله أمينه العام نعيم قاسم أخيراً من أن "إسرائيل متفوّقة علينا عسكرياً". والبناء على هذا التعبير، مرفقاً بقول قاسم إن "سلاحنا دفاعي"، يقتضي الانتهاء من التصعيد الكلامي، الذي لا يُوجَّه سوى للداخل اللبناني حصراً. ذلك، لأنه حين تعترف بتفوّق عدوك عليك عسكرياً، من غير المسموح لك الانجرار إلى إشكاليات داخلية مع مواطنين مساوين لك في البلاد، فقط لأنهم يعارضون ما قمت به، في موازاة استمرار تهجير عشرات آلاف الجنوبيين ونزوحهم من قراهم. الأولوية تكمن في كيفية إعادتهم إلى ديارهم، ولو على حسابك أنت. الشعب أهم من أيّ تنظيم أو حزب، مهما كبر أو صغر.
إذا ذهبنا إلى "اليوم التالي" بشأن تسليم سلاح حزب الله، ما الذي سيحدُث؟ سيستيقظ أنصاره في أماكن سكنهم كما استيقظوا قبلها بيوم وسنوات. وسيفهم حزب الله أن حجمه السياسي بلا سلاح هو الحجم الحقيقي له. الحزب يعلم ذلك، لكنّه غير قادر على تحمّل فكرة إقناع جمهوره بذلك. أيضاً، أفضى اغتيال الأمين العام حسن نصر الله إلى فراغ على مستوى القيادة والتحشيد، ما استولد أزمة ثقة بين مؤيّدي الحزب. إنه أمر متكرّر في لبنان. فحين يُغتال بطل حزب وهو بمثابة بطل طائفة، تدخل طائفته حالة حداد نفسي، بموازاة صراع أجنحة داخلية فيها لتولّي قيادتها. وبعد فترة تتخذ الأمور شكلاً أكثر طبيعية فتقتنع كل طائفة لبنانية، أنها ليست وحدها في البلاد، ولا هي الأكبر ولا الأقوى. لكن هذه المرحلة الانتقالية تبقى مركزيةً، لأنها تشبه بحيرةً هادئةً، تُرمى فيها حجارة تُحدث دويّاً هائلاً فيها، ثمّ تتحوّل الحجارة جزءاً من البحيرة. والمسألة هنا، أن البحيرة قادرة على استيعاب الحجارة لدرجة تماهيها معها، فتصبح جزءاً منها وتتشرّب منها في حرية متبادلة. أمّا الحجارة المتناثرة حول البحيرة، فدائماً ما تبقى عرضةً أكثر للتحرّك بفعل عوامل طبيعية، لكنّها ليست حرّة حرّية حجارة البحيرة.