جاءت المذبحة التى قتل فيها 8 مسلمين في هجوم غامض جنوب الفلبين مؤخرا لتفتح ملف المسلمين فى تلك البلاد، الذين عانوا سنوات طويلة من الاضطهاد الحكومى والقتل والاعتقال والتشريد والاتهام بالإرهاب، إلى أن استقرت بهم الأمور بعد توقيع اتفاق السلام في شهر مارس 2012 بين الحكومة الفلبينية وجبهة تحرير مورو الإسلامية في العاصمة الماليزية كوالالمبور، لتنتهي بذلك عقود من الصراع المسلح بين الجانبين.
لكن يبدو أن هناك مصالح للنظام الحاكم فى فتح هذا الملف من جديد ما يعيد إلى الأذهان التاريخ الأسود الذي عاشه شعب مورو من قتل أبنائه وطردهم من أراضيهم والتمييز بحق المسلمين" في مناطق الجنوب التي عانت نحو 4 عقود من صراع راح ضحيته أكثر من 120 ألف شخص.
كانت حادثة مأساوية قتل فيها 8 فلبينين مسلمين وأصيب شخص تاسع في إطلاق نار في إقليم كوتاباتو الشمالية مساء السبت، قد وقعت في محمية زراعية تابعة لحرم جامعة جنوب مينداناو، وكان الأشخاص التسعة الذين استهدفوا في طريقهم باتجاه مدينة كاباكان الزراعية وكانوا يستقلون دراجات نارية.
يأتي الهجوم بعد تفجيرين؛ أحدهما انتحاري وقع في مدينة جولو عاصمة إقليم سولو (جنوبي الفلبين)، وراح ضحيته 15 شخصا، كما جرح 75 آخرون، بعضهم من الشرطة والجيش.
حكومة بنغسامورو
وفى رد فعل أولى على الحادث قال مسئولون في إدارة "الحكم الذاتي لشعب بنغسامورو في مينداناو المسلمة إنهم سيحققون بشكل مستقل في مقتل 8 مدنيين مسلمين، وأعربت إدارة الحكم الذاتي عن أسفها العميق لمقتل 8 وجرح تاسع، حيث أطلق مسلحون مجهولون النار عليهم، مشيرة إلى تسلمها تقارير من شهود عيان حول الحادثة التي وقعت في بلدية كاباكان في إقليم مجاور لمنطقة الحكم الذاتي.
وأشارت إلى أن الشرطة والجيش في البلاد لم يعلنا أي مؤشرات أو حقائق بخصوص حادثة القتل التي استنكرها بشدة سياسيون محليون، ووصفوها بأنها "مذبحة".
كما استنكرت قوات بنغسامورو الإسلامية المسلحة الحادثة المأساوية مشيرة إلى أن ذلك يعيد إلى الأذهان التاريخ الأسود الذي عاشه شعب مورو.
ودعت قوات بنغسامورو -التي بدأت نزع سلاحها تدريجيا مع قبولها بالحكم الذاتي- الشرطة والمخابرات في مانيلا إلى إجراء تحقيق واف ومحاكمة منفذي الهجوم.
مكافحة الإرهاب
يشار إلى أن الرئيس الفلبيني رودريجو دوتيرتي كان قد وقّع -رغم المعارضة والانتقادات الواسعة له- على قانون جديد لمكافحة الإرهاب كان قد أُقر من قبل الكونجرس في البلاد بغرفتيه ويمنح القانون السلطة التنفيذية صلاحيات واسعة لملاحقة الأشخاص أو الجماعات بتهمة الإرهاب.
وكشفت مصادر صحفية فلبينية أن توقيع القانون جاء رغم وجود بعض الأصوات المتحفظة داخل الحكومة الفلبينية على بعض مواده، وقبل يوم من توقيع القانون دعت حكومة بنغسامورو في منطقة الحكم الذاتي لمينداناو المسلمة الرئيس دوتيرتي إلى ممارسة حق الفيتو ومنع تمرير القانون.
وعبرت عن قلقها من أن القانون قد يؤدي إلى مزيد من التمييز وسوء المعاملة وانتهاكات حقوق الإنسان بحق مسلمي مينداناو.
وعارض بيان موحد لمحامي ومشرعي المناطق المسلمة في مينداناو القانون معبرين عن قلقهم من أن القانون سيزيد التمييز بحق المسلمين في مناطق الجنوب التي عانت طوال 4 عقود من صراع راح ضحيته أكثر من 120 ألف شخص.
وكان 8 نواب يمثلون دوائر ذات أغلبية مسلمة في مينداناو من بين 31 نائبا في البرلمان الفلبيني قد رفضوا القانون خلال التصويت عليه مقابل 29 امتنعوا عن التصويت، و173 نائبا وافقوا عليه، مما جعله يقر ويُرفع إلى الرئيس.
وطالب مراد إبراهيم رئيس سلطة بنغسامورو الانتقالية أن يكون لحكومة بنسغامورو تمثيل في "مجلس مكافحة الإرهاب" الذي يؤسسه القانون الجديد، ومعظم أعضائه من وزراء الحكومة المركزية.
وقال إن سلطة بنغسامورو الانتقالية مستعدة للتعاون مع الحكومة المركزية واستشكاف وسائل مختلفة لحماية شعبها من الإرهاب، موضحا أنه ما دام القانون قد وقّع فإننا نثق بأن الرئيس سيضمن ألا يقع ما كان من مكامن القلق والمخاوف لدى شعب مورو.
انتقادات حقوقية
فى المقابل انتقدت منظمة هيومن رايتس ووتش القانون، معتبرة إياه " كارثة إنسانية" بشموله على تعريف واسع للإرهاب، ويعرّض المشتبه بهم للاعتقال لأسابيع قبل المثول أمام القضاة خلافا للقانون السابق الذي كان يلزم بجلب المشتبه به للقضاء خلال 3 أيام.
وقالت منظمة العفو الدولية على لسان مديرها الإقليمي في منطقة آسيا والمحيط الهادي إنه "في ظل سلطة دوتيرتي قد يوصف أقل الأشخاص انتقادا بالإرهاب
وأكد أن هذه الإدارة أنتجت سلاحا جديدا لاستهداف كل من يتصور على أنه عدو للدولة، في ظل حالة سائدة من الإفلات من العقاب.
وأشارت المنظمة إلى أن القانون يضم تعريفا غامضا للغاية للإرهاب، وسيزيد الوضع سوءا بالنسبة للمدافعين عن حقوق الإنسان.
فيما تقدمت مؤسسة كاليجا للاستشارات القانونية بأول مرافعة ضد القانون، وأعلن محامون وناشطون عن سعيهم لتحدي القانون في المحاكم، واعتبر كبير القضاة السابق في المحكمة العليا القاضي أنطونيو كاربيو أن القانون مخالف لدستور عام 1987.
كما أصدر الاتحاد الوطني لمحامي الشعب في الفلبين بيانا وقع عليه 760 محاميا وناشطا من الفلبين والولايات المتحدة وبريطانيا وإيطاليا وتركيا والبرتغال وسويسرا وكندا جاء فيه أن القانون" يؤسس لتهديد واعتداء على الحريات المدنية".
معسكر مراوي
ومن المضايقات الآخرى التى تمارسها الحكومة الفلبينية ضد المسلمين إعلانها عن خطة لتشييد معسكر ثانٍ للجيش الفليبيني في مدينة مراوي جنوب البلاد -التي وقعت فيها أشرس معارك المدن في تاريخ البلاد منذ استقلالها- وأثارت هذه الخطة قلقا واسعا في أوساط المسلمين هناك الذين حذروا من التبعات الأمنية والديمغرافية المترتبة على ذلك.
ووقع الرئيس الفلبيني رودريجو دوتيرتي قرارا يقضي بتأسيس لجنة عمل فنية لدراسة خطة تشييد للمعسكر في وسط المدينة التي دمرت في حرب عام 2017 بين الجيش وعناصر تنظيم الدولة الإسلامية.
وتضم اللجنة ممثلين عن ست هيئات ووزارات مركزية في مانيلا، وفي مقدمتها الدفاع، وستتابع تنفيذ تشييد المعسكر وما يتعلق به من تعداد للسكان الذين سيتضررون من قيامه.
واللافت أن القرار المذكور بتشكيل اللجنة الفنية لا يشير إلى وجود ممثلين عن مكتب عمدة المدينة، أو حاكم الإقليم أو مجلسه المحلي ولا حتى ممثلين عن "السلطة الانتقالية لمنطقة الحكم الذاتي لبنغساموور في مينداناو المسلمة".
وعقب إعلان القرار وقع أكثر من مئة ألف نسمة من سكان مراوي وما حولها في إقليم لاناو الجنوبية ذي الأغلبية المسلمة عريضة رفعوها إلى قصر الرئاسة في مانيلا يرفضون فيها بناء معسكر وسط مدينتهم التي لم يتم إعمار أي منزل مهدم فيها حتى الآن.
ونظم حملة جمع تواقيع نحو نصف سكان المدينة "منتدى إذاعة ساكسي" -وتعني الشاهد باللغة المحلية- و"اتحاد قومية المراناو من أجل السلام"، وهي القومية المسلمة التي تقطن إقليمي لاناو الشمالية والجنوبية، وما زالوا ينتظرون رد الرئيس رودريجو دوتيرتي.
13 مليون نسمة
يبلغ إجمالي عدد المسلمين في الفلبين 13 مليون نسمة، يتركز أكثر من نصفهم في جزيرة ميندناو الجنوبية، وذلك من إجمالي عدد سكان الفلبين البالغ 100 مليون نسمة.
ويعد الإسلام أول ديانة سماوية تدخل أراضي الفلبين وأثر الإسلام في الفلبين بشكل واضح خصوصًا مع سرعة تقبل سكان الفلبين له قديمًا، حتى أصبح جزءًا من ثقافتهم رغم محاولات الطمس العديدة.
في عام 1310م وصل دعاة العرب المسلمين إلى جزر “مانبولاس”، والتي يبلغ عددها 7000 جزيرة منها 2000 جزيرة مأهولة بالسكان، قادمين من منطقة حضر موت اليمنية. وصول هؤلاء الدعاة حول غالبية السكان من الوثنية لاعتناق الإسلام، وتحول اسم الجزر من “مانبولاس” إلى “عذراء ماليزيا”، في إشارة لتأخر وصول الإسلام إليها، ولأن أغلب سكانها كانوا مالاويين فاعتبرها العرب جزءًا من ماليزيا.
من بين هذه الجزر كانت جزيرة “لوزون” الشمالية، وهي أكبر جزيرة، تبلغ مساحتها 150 ألف كيلومتر مربع، وكانت إحدى أكبر الإمارات الإسلامية في المنطقة، وكانت عاصمتها مدينة “أمان الله”، التي تحولت إلى “مانيلا” في أعقاب الاستعمار الإسباني.
ثاني أكبر جزيرة هي جزيرة “ميندناو” الجنوبية التي تبلغ مساحتها 140 ألف كيلومتر مربع، وكانت وما تزال من أكثر الجزر كثافةً بالمسلمين، والذين يطلق عليهم شعب مورو.
بداية الصراع
مع سقوط الأندلس عام 1492م تراجعت هيبة المسلمين، وبدأت سلسلة من الحملات الاستعمارية على جزر “عذراء ماليزيا” لتصل القوات الإسبانية إلى الجزر عام 1521م بقيادة المستكشف ماجلان. وبعدما سقطت الجزر في قبضة الإسبان حولوا اسمها إلى جزر “الفلبين”، نسبة للملك الإسباني “فيليب الثاني”.
أجبر الإسبان السكان على التنصر، ومن كان يرفض منهم كان مصيره الموت (مثلما فعل الإسبان في مسلمي الأندلس)، لتصبح المسيحية الكاثوليكية هي الدين الغالب على الجزر. ومن بين الفظائع التي ارتكبت كان حرق مدينة “أمان الله” وتدميرها بالكامل، ثم تم إعادة بنائها دون ترك أي من معالمها الإسلامية، لتصبح “مانيلا” عاصمة الفلبين حاليًا.
وعندما وصل الإسبان إلى جزيرة “ميندناو” الجنوبية انتفض سكانها ضد هذا الغزو، فى مقاومة إسلامية شرسة ألحقت خسائر فادحة بالإسبان وأجبرتهم على التراجع والانسحاب من الجزيرة.
ونتيجة للمقاومة الشرسة ولحرب الإسبان مع الأمريكان، سلمت إسبانيا جزر الفلبين (عدا ميندناو الجنوبية لعدم احتلالها من قبل الإسبان) بمبلغ 20 مليون دولار، عام 1898م، لتبدأ فترة الاحتلال الأمريكي حتى عام 1941م.
في نفس عام تسليم الفلبين للأمريكان اندلعت ثورة عارمة من قبل شعب مورو في ميندناو الجنوبية؛ رفضًا لضم جزيرتهم إلى باقي جزر الفلبين، لكن الاستعمار الأمريكي قمع هذه الثورة على مدار 4 سنوات بمنتهى القوة، وعمل الأمريكان بعدها على نشر الجهل ومصادرة أراضي المسلمين بالجزيرة، وبث الفتن بين المسلمين في الجزر المختلفة، حتى يتفرق المسلمون بعدها وتسقط كافة الجزر بلا استثناء في قبضة الأمريكان.
فى عام 1941م، وخلال الحرب العالمية الثانية طردت القوات اليابانية الأمريكان من جزر الفلبين، لكن مع هزيمة اليابانيين في الحرب والمقاومة الشرسة تم منح الفلبين الاستقلال عام 1946م إثر اتفاقية بين اليابانيين والأمريكان، والتي تم بموجبها ضم جزيرة ميندناو الجنوبية إلى باقي الأراضي الفلبينية.