بيع الوزارات أم تفريغ الدولة؟ لماذا يفتح السيسي قلب القاهرة أمام الاستثمارات الأجنبية ؟

- ‎فيتقارير

لماذا يفتح  المنقلب السيسي قلب القاهرة أمام الاستثمارات الأجنبية ويؤخر استقرار الحكومة في العاصمة الإدارية؟

في خطوة تعكس تحوّلاً عميقاً في فلسفة إدارة الدولة لأصولها، أعلنت حكومة الانقلاب  الشروع في تحويل مبنى وزارة الداخلية التاريخي بمنطقة لاظوغلي، أحد أهم معالم وسط القاهرة، إلى مجمع خدمي–سياحي– ترفيهي متكامل، تقوده استثمارات خاصة وبشراكات أجنبية، تحت مظلة الصندوق السيادي المصري، في مشهد يتكرر مع عشرات المباني الوزارية والإدارية التي جرى إخلاؤها من قلب العاصمة.
الوزير حسن الخطيب، وزير الاستثمار، قدّم المشروع باعتباره نموذجاً لـ«تعظيم الاستفادة من أصول الدولة غير المستغلة»، وجذباً للاستثمارات الأجنبية، وتكريساً لدور القطاع الخاص، مؤكداً أن الصندوق السيادي لا يبيع الأصول بل «يعظم عائدها».

 غير أن هذا الخطاب الرسمي يصطدم بأسئلة جوهرية تتعلق بطبيعة ما يجري في وسط القاهرة، وحدود الفاصل بين التطوير والخصخصة المقنّعة.
وسط البلد.. من قلب الإدارة إلى سلعة استثمارية
تحويل مبنى وزارة الداخلية إلى فندق تديره شركة ماريوت العالمية، ووحدات سكنية فندقية، ومتاجر ومطاعم ومرافق ترفيهية، ليس سوى حلقة في سلسلة طويلة من إعادة توظيف المباني السيادية والتاريخية في وسط البلد لصالح أنشطة استثمارية ذات طابع سياحي–استهلاكي، تستهدف شرائح محدودة، في وقت يعاني فيه المصريون من أزمة سكن خانقة، وتراجع حاد في الخدمات العامة.
ورغم الحديث عن «الحفاظ على الطابع التراثي»، فإن الوقائع على الأرض تشير إلى تفريغ تدريجي لقلب القاهرة من وظيفته السياسية والإدارية والاجتماعية، وتحويله إلى منطقة استثمارية عالية القيمة، مفتوحة أمام رؤوس الأموال الأجنبية والخليجية تحديداً.
العاصمة الإدارية.. مدينة بلا دولة؟
المفارقة أن هذا التفريط المتسارع في أصول وسط البلد يتزامن مع تأخر واضح في اكتمال انتقال الوزارات والهيئات الحكومية إلى العاصمة الإدارية الجديدة، التي أُنفقت عليها مئات المليارات من الجنيهات عبر القروض والديون، فلا العاصمة الجديدة باتت مقراً فعلياً مكتمل الأركان لإدارة الدولة، ولا القاهرة القديمة احتفظت بدورها التاريخي.

هذا الوضع يثير تساؤلات حول جدوى المشروع برمّته:
هل تُستخدم العاصمة الإدارية كذريعة لإخلاء وسط القاهرة تمهيداً لبيعه؟
أم أن الدولة، تحت ضغط الأزمة المالية ونقص العملة الصعبة، باتت تتعامل مع أصولها السيادية كملاذ أخير لسد فجوات التمويل؟

الصندوق السيادي.. أداة إنقاذ أم بوابة خصخصة؟
القانون المنظم للصندوق السيادي منح رئيس الجمهورية صلاحيات واسعة لنقل ملكية الأصول الحكومية إلى الصندوق، ما جعله القناة الرئيسية لإعادة هيكلة الملكية العامة بعيداً عن الرقابة البرلمانية والمجتمعية.

ورغم التأكيد الرسمي المتكرر على أن الأصول لا تُباع، فإن نماذج التأجير طويل الأجل، وتقاسم الإيرادات، وإدارة الأصول من قبل شركات أجنبية، تطرح عملياً سؤال السيادة الاقتصادية.
فالمبنى الذي كان رمزاً لسيادة الدولة وأجهزتها الأمنية، بات يُدار وفق منطق الربح والعائد، وتحت إدارة علامة تجارية عالمية، في واحدة من أكثر المناطق حساسية تاريخياً وسياسياً.

 

فشل الشراكات السابقة… وإعادة المحاولة
لافت أن مشروع تطوير مبنى وزارة الداخلية يأتي بعد سلسلة من الإخفاقات، أبرزها فشل تحالف أميركي–إماراتي في 2021، ثم تعثر صفقة مع شركة إماراتية عام 2023 لضخ 800 مليون جنيه. ورغم ذلك، تعود الحكومة للمراهنة على النموذج ذاته، في ظل ظروف اقتصادية أكثر تدهوراً، وعملة فقدت أكثر من نصف قيمتها.
الدلالات الأعمق
ما يجري في وسط القاهرة لا يمكن فصله عن مسار أوسع لإعادة تشكيل المجال العام والاقتصاد السياسي في مصر، حيث:
تتحول الدولة من مالك ومشغّل إلى وسيط يبيع أو يؤجّر أصوله.
تتراجع الوظيفة الاجتماعية والتاريخية للمدينة لصالح الاستثمار العقاري والسياحي.
يُفتح قلب العاصمة أمام رأس المال الأجنبي، بينما يُدفع المواطنون والموظفون إلى أطراف بعيدة وبنية غير مكتملة.
في المحصلة، تبدو عملية «تطوير وسط القاهرة» أقرب إلى إعادة توزيع للثروة والمكان، لا لصالح الدولة أو المجتمع، بل لتخفيف أعباء نظام يواجه أزمة مالية خانقة، ولو كان الثمن هو التخلي التدريجي عن قلب العاصمة ورمزيتها وتاريخها.