تتسارع خطوات نظام المنقلب السيسي نحو إعادة هندسة واحدة من أقدم وأهم المؤسسات الاجتماعية في مصر: نظام الوقف الإسلامي، ليس باعتباره موردًا للعدالة الاجتماعية أو سندًا للفقراء، بل باعتباره خزانًا عقاريًا واستثماريًا ضخمًا يجري توظيفه لسد عجز السلطة وتمويل مشروعاتها، حتى لو كان الثمن طرد مئات الآلاف من الفلاحين والسكان البسطاء من أراضٍ ومنازل عاشوا عليها لعقود.
أحدث هذه الخطوات تمثّل في القرار الصادم لهيئة الأوقاف برفع القيمة الإيجارية لأراضي الوقف الزراعية والسكنية والتجارية بنسب وصلت إلى ثلاثة أضعاف دفعة واحدة، وهو ما فتح الباب واسعًا أمام تساؤلات خطيرة: هل تمهّد هذه الزيادات لطرد الفلاحين وبيع الأراضي لاحقًا؟ وهل تحوّل وزراء الأوقاف من حماة للوقف إلى وكلاء تصفية؟.
صدمة الزيادات… أرقام “فلكية” في وجه الفقراء
في قرى وعزب تمتد من الدلتا إلى الصعيد، فوجئ مزارعون وفقراء يسكنون على أراضي الوقف بقرارات ترفع إيجار الفدان من نحو 15 ألف جنيه إلى 40 و45 ألف جنيه دفعة واحدة، بينما قفزت إيجارات المنازل والمحلات المبنية على أراضي الوقف إلى مستويات تعجز عنها الشرائح الأكثر فقرًا.
هذه الزيادات لم تأتِ في سياق ازدهار اقتصادي أو طفرة زراعية، بل في ظل:
• ارتفاع غير مسبوق في أسعار السماد والبذور والوقود.
• كساد في بعض المحاصيل.
• غياب تسعير عادل للمحاصيل من جانب الدولة.
ما يعني عمليًا أن الفلاح يعمل عامًا كاملًا بالخسارة، أو يخرج من الأرض مكرهًا.
“قرار طرد لا قرار إصلاح”
فلاحون أكدوا أن ما يحدث هو استحالة اقتصادية متعمّدة، تؤدي بالضرورة إلى:
• عجز جماعي عن السداد.
• فسخ تعاقدات.
• ثم إعادة طرح الأراضي بعقود جديدة لمستثمرين أو كبار ملاك.
أحد المزارعين يختصر المشهد بوضوح:
“مافيش محصول يجيب 45 ألف جنيه إيجار بعد تكلفة الزراعة… ده مش تصحيح قيمة، ده إعلان طرد رسمي”.
البيان الرسمي… لغة “الحفاظ على الوقف” لإخفاء جوهر الأزمة
وزارة الأوقاف برّرت القرار بوجود “عوار في العلاقات التعاقدية” و”إهدار لمال الوقف”، زاعمة أن الزيادات جاءت بعد “معاينات فنية دقيقة”، لكن البيان تجاهل:
• الأوضاع الاجتماعية للمستأجرين.
• طبيعة الوقف باعتباره مالاً محبوسًا للخير لا للمضاربة.
• الفارق الهائل بين “القيمة السوقية” و”القدرة الواقعية للفلاح”.
وهنا تنتقل الدولة من منطق الرعاية إلى منطق الجباية الصِّرفة.
من عبء اجتماعي إلى أصل استثماري: انقلاب على فلسفة الوقف
الوقف في جوهره:
• أصل ثابت.
• ريعه مخصص للفقراء والطلاب والمرضى والمساجد.
لكن منذ 2014، وبتوجيه مباشر من السيسي، جرى تحويل الوقف إلى ذراع استثمارية سيادية تخضع لمنطق:
• الأرباح.
• مؤشرات العائد.
• المنافسة السوقية.
حتى أن مسئولًا بوزارة الأوقاف صرّح بوضوح أن:
“اللاهوت القديم انتهى… الوقف الآن للاستثمار لا لله”.
وهو تصريح يكشف حجم الانقلاب الفكري قبل الانقلاب المالي.
أرقام تكشف الاتجاه الحقيقي
• إيرادات هيئة الأوقاف بلغت نحو 3 مليارات جنيه في 2024.
• القيمة السوقية لأصول الأوقاف، وفق تقديرات رسمية، تتجاوز 3 تريليونات جنيه.
• نصف مليون فدان زراعي.
• أكثر من 114 ألف قطعة أرض وعقار.
هذه الأرقام تفسّر لماذا تحوّل الوقف فجأة إلى هدف مغرٍ في زمن بيع الأصول العامة.
مسار تشريعي يمهّد للبيع لا للحماية
منذ 2016 صدرت سلسلة قرارات:
• حصر شامل للأوقاف.
• السماح بالبيع والاستبدال.
• إخضاع كل عقود الأوقاف للقيمة السوقية.
• إنشاء “صندوق الوقف الخيري” برئاسة رئيس الوزراء نفسه.
وفي أيار/ مايو الماضي، جرى رسميًا فتح الباب أمام:
“شراكات مع القطاع الخاص لتعظيم الاستفادة من أصول الوقف”.
وهو التعبير الذي استخدم نفسه في بيع:
• شركات قطاع عام.
• أراضي الدولة.
• أصول الموانئ والطرق.
مختار جمعة وأسامة الأزهري… من حماية الوقف إلى إدارة تصفيته؟
وزراء الأوقاف في عهد السيسي لم يقفوا في صف:
• الفلاح.
• الفقير.
• المستفيد الشرعي.
بل لعبوا دور:
• المنفّذ الأمين لتوجيهات الاستثمار والجباية.
• والمبرر الديني لتحويل الوقف إلى مشروع اقتصادي بحت.
من مختار جمعة الذي فتح أبواب البيع والاستبدال، إلى أسامة الأزهري الذي واصل النهج تحت غطاء “تحديث الإدارة”، ظل الاتجاه واحدًا: تفريغ الوقف من مضمونه الاجتماعي وتحويله إلى مورد مالي للسلطة.
الخلاصة: الوقف يُنهب باسم التطوير
ما يجري اليوم ليس:
• تصحيح مسار.
• ولا عدالة مالية.
بل :
• إعادة توظيف قسرية لأموال الفقراء لصالح دولة مفلسة.
• وإقصاء اجتماعي جديد للفلاحين وسكان العشوائيات.
• وتمهيد ناعم لبيع الوقف أو تدويره في مشروعات تخدم رأس المال لا الفقراء.
الوقف الإسلامي لم يكن يومًا ملكًا لحاكم أو حكومة، بل أمانة اجتماعية حبسها المصريون للفقراء وطلاب العلم والمرضى، لكن في عهد السيسي تحوّلت هذه الأمانة إلى ملف استثماري على مكاتب الحكومة، يُدار بمنطق الأرباح لا بمنطق الخير.