عامان مرا على الطوفان منذ أن وقعت أحداثه الأولى في السابع من أكتوبر 2023 م ، فما هو حصاد تلك الأيام الصعبة التي مرت على أهل غزة أعدوها بالدقائق واللحظات لا بالساعات أو الأيام ، وأسفرت عن 200 ألف شهيد وجريح ومفقود معظمهم من النساء والأطفال.
هذا هو الوجه المؤلم في الأحداث التي مرت خلال هذين العامين المنصرمين ، إلا أنه في المقابل كان للطوفان أثر بالغ في إخراج المنطقة إلى فضاءات واسعة من الفعل بعد أن كانت منذ عقود ردا للفعل.
فقد كانت اللحظات الأخيرة في مرحلة ما قبل الطوفان تسير باتجاه تثبيت معالم الاستراتيجية الامريكية تجاه المنطقة والتي يمكن أن نرصد بعضا من أبعادها ومظاهرها في عدد من المحددات:
- أولها الاستعداد لتوسيع دائرة الانسحاب العسكري الأمريكي من المنطقة من خلال تقليل مساحات التواجد العسكري في عدد من بلدان المنطقة وتفرغ الولايات المتحدة ربما لصراعات أكثر أهمية لديها ، أو مدفوعة برغبة في التركيز على الداخل الأمريكي وتقليل النفقات الحربية التي تتسنزف الاقتصاد.
- ثانيها الاعتماد بعد تحجيم التواجد العسكري الأمريكي على تثبيت الهيمنة الامريكية في المنطقة وتفعيلها من خلال عدد من الإجراءات والسياسات أهمها:
- توسيع دائرة التطبيع بين الدول العربية والإسلامية من ناحية وبين الكيان الصهيوني من ناحية أخرى ، وذلك من خلال تسويق مشروع "إبراهام" الذي دخلت فيه غالبية الأنظمة العربية طوعا أو كرها ، وكان المخطط أن تكون المملكة العربية السعودية هي الثمرة النهائية لعمليات التطبيع.
- إعطاء الاحتلال الصهيوني الضوء الأخضر لقيادة المنطقة في أتون عمليات التطبيع والرضوخ ، بما يساعد على تحكم الاحتلال في مفاصل الاقتصاد العربي وسياساته الداخلية وتفعيل عداءات الأنظمة مع شعوبها لضمان استقرار المشروع الصهيوني.
- الاستمرار في دعم الأنظمة الاستبدادية في المنطقة والحيلولة دون سقوطها مقابل اتفاقات التطبيع مع الاحتلال الصهيوني ، وقيامها بدور فاعل في حجب حركات التغيير والإصلاح في المنطقة عن الوجود ، والاستمرار في سياسة قمع الشعوب.
- الوصول لاتفاق بين الولايات المتحدة وإيران بشأن المفاعل النووي الإيراني مقابل الصمت على الوجود الإيراني في عدد من العواصم العربية " العراق – اليمن – سوريا – لبنان ".
وقد وصلت الولايات المتحدة في مرحلة ما قبل الطوفان إلى منجز واضح في خطتها ودعما لاستراتيجيتها في المنطقة ، إلا أن الطوفان جاء في السابع من أكتوبر 2023م ليدفع بهذه الاستراتيجية بعيدا عن مجال التنفيذ ، بل وينجح في وضع وصياغة معادلات سياسية جديدة في المنطقة على خلاف ما تم التخطيط له.
ولعل من أبرز المتغيرات التي تمت بعد الطوفان في توجهات السياسة الأمريكية :
- انتقلت السياسات الأمريكية من دائرة الفعل إلى دائرة رد الفعل ومن دائرة التأثير إلى محيط التأثر.
- انتقلت السياسات الأمريكية من مربع فرض الاستراتيجية المعدة مسبقا ، إلى مرحلة الفراغ الاستراتيجي ، حيث أصبح لزاما على الولايات المتحدة بعد الطوفان أن تصيغ استراتيجية جديدة تتواءم مع الواقع الجديد وهو ما كان له أثر واضح على حالة الارتباك التي شهدتها السياسات الأمريكية إزاء الصراع الدائر.
- فقدت الولايات المتحدة أعمدة رئيسة من استراتجيتها حيث لم يعد هناك مجال للحديث عن التطبيع في ظل حرب الإبادة التي تتم داخل غزة ، ولم يعد بمقدور الأنظمة العربية أن تمارس مزيدا من الضغوط على شعوبها لمنعها من التفاعل مع القضية الفلسطينية ناهيك عن انعدام قدرتها على الحديث عن قبول فكرة التطبيع.
- خسرت الولايات المتحدة من التباعد المتزايد بين الشعوب المتعاطفة مع غزة والقضية الفلسطينية والمحتقنة ضد الاحتلال الصهيوني من ناحية ، وبين الأنظمة التي تكشفت سياساتها المنحازة للولايات المتحدة أمام شعوبها ، بما أفقد الكثير منها المشروعية الشعبية.
- فقدت الولايات المتحدة أحد أعمدة استراتيجيتها بعد دخول إيران في أتون مواجهات مع الكيان الصهيوني من خلال جبهات لبنان واليمن ، بل ومن خلال طهران في وقت لاحق ، وهو ما فرض معادلة جديدة على السياسة الأمريكية ، وأربك خططها التي كانت ترتكز على تسكين العلاقة مع إيران مقابل ترك مساحات هيمنة لها على عدد من الدول العربية.
- اضطرت الولايات المتحدة لمواجهة المخاطر الحالية في إيران بمخاطر آجلة في سوريا فسقط النظام السوري ووصل الثوار إلى قلب دمشق ، ولم يكن أمام الأمريكان بد من التجاوز عن وجود سلطة مناوئة لهم تمثل تهديدا لاحقا.
- اضطرت الولايات المتحدة للبقاء عسكريا في المنطقة ، بل وأصبح لزاما عليها أن تقدم الدعم المستمر على مدار عامين للآلة العسكرية الصهيونية ، على خلاف ما كانت تخطط له من الابتعاد عن المنطقة وتركها في إطار معادلة تضمن هيمنة الاحتلال الصهيوني مع التطبيع الكامل مع الأنظمة وضمان استقرار العلاقة مع إيران.
- تأثر الاقتصاد الأمريكي بشكل كبير بعملية الدعم العسكري الواسع للكيان الصهيوني، بما ترك آثاره على عملية الإغلاق المالي وما يتركه من تأثيرات اقتصادية ، جاءت نتيجة رغبة البيت الأبيض في الدخول في حالة تقشف بسبب توجيه الموارد الاقتصادية لدعم الاحتلال.
- انصرفت الولايات المتحدة في ظل انخراطها الواسع في الصراع بالمنطقة ، عن الاهتمام بقضايا لها تأثيرات مستقبلية خطيرة على أمنها وريادتها خاصة مع المحور الصيني الروسي.
هذه بعض أبرز مظاهر التغير في الواقع الذي وقع بعد مرور عامين على الطوفان وبسببه ، بينما ظلت المعادلات في المنطقة خلال العقود الماضية تسير باتجاه رد الفعل على السياسات الأمريكية والتعامل معها ومحاولة تقليل تأثيراتها الخطيرة ، إلا أن الطوفان قفز على هذه الحقيقة ووضع الولايات المتحدة مع كيانها المحتل في مساحة رد الفعل.