تفاصيل مشروع “إسرائيل الكبرى” كما يتخيله نتنياهو

- ‎فيمقالات

      عريب الرنتاوي

    كاتب ومحلل سياسي أردني

 

يبدو أن "ملك إسرائيل" لم يعد لقبا كافيا لوصف نظرة بنيامين نتنياهو لنفسه، فالرجل، مدفوعا بجنون القوة والعظمة، بدأ يتطلع للقب "رسالي"، يضعه على مقربة من "أنبياء إسرائيل وملوكها".

فقد قال إنه في ذروة مهمة "تاريخية وروحية"، وإنه ملتصق بحلم "إسرائيل الكبرى"، وخرائطها التي ترتسم في مخيلته المريضة، تمتد من النيل إلى الفرات، غير آبهٍ ولا مكترث بوجود "نصف دزينة" من الدول ذات السيادة، ضاربا عرض الحائط بماضي وحاضر ومستقبل شعوب مؤسِسة لهذه المنطقة، ضربت جذورا في عمق الأرض والتاريخ والجغرافيا، تعود لألوف خلت من السنين.

نتنياهو، الذي قالها بصريح العبارة، بأنه لم يخطئ قبل الحرب على غزة ولا بعدها أو في سياقاتها، اعتاد أن ينسب الانتصارات لنفسه، وإلقاء اللائمة في الفشل على غيره، لا ينتمي لمدرسة جابوتنسكي التصحيحية، التي كان والده أحد تلاميذها النجباء فحسب، بل ويعتقد جازما أن مكانته تفوق مكانة الآباء المؤسسين لهذا الكيان.

كيف لا، وقد سجل رقما قياسيا في سدة الحكم، لم يحظَ به بن غوريون ولا مناحيم بيغن، ولا غيرهما. بعثته "العناية الإلهية" لتصحيح خطأ بن غوريون بالإبقاء على "فلسطينيي 48″، وخطأ رابين لإبرامه أوسلو وقبوله فكرة تقاسم "يهودا والسامرة"، وخطأ شارون لانسحابه من قطاع غزة.

كل ما فعله نتنياهو إبان حكوماته المتعاقبة منذ أواسط التسعينيات وحتى يومنا هذا، إنما يندرج في إطار هذه "الورشة التصحيحية"، التي يقودها إستراتيجيا، بنزعة ودوافع "ثيولوجية"، ويديرها تكتيكيا، ببراغماتية ومراوغة، اشتهر بهما أكثر من غيره.

بجُمل ثلاث، أدلى بها لمراسل صحفي، كشف نتنياهو المستور عن حقائق وخبايا الموقف الإسرائيلي، من دون مساحيق ولا أقنعة.. إسرائيل الكبرى، هي حلم اليهود على امتداد تاريخهم، والوصول إليها يتم على مراحل متعاقبة، بدأها "الجيل الأول" بإقامة الكيان بعد ابتلاع مساحة واسعة من "دولة فلسطين" التي رسّم حدودها قرار التقسيم 181.. وجيله، جيل نتنياهو، معني ببقائها (أو بالأحرى توسيعها)، ومهمة امتدادها بين خطي العلم الزرقاوين، "رسالة تاريخية- روحية"، سيعمل على إتمامها، حين يعيد الشعب الإسرائيلي تجديد ثقته به لولاية/ولايات قادمة.

من النهر إلى البحر

لم يتوسع الرجل في شرح مقصده من الحديث عن "حلم إسرائيل الكبرى" الذي يلتصق به، ويعيش من أجله، والمصطلح في القاموس السياسي الإسرائيلي، أخذ ويأخذ معاني مختلفة ومتغيرة، أكثرها شيوعا وانتشارا (وموضع إجماع)، ذاك الذي يؤشر لدولة اليهود "من النهر إلى البحر".

إعلان

ذلكم هدفٌ يتردد على ألسنة مختلف ألوان الطيف السياسي في إسرائيل، وقد أقره الكنيست مرتين: "قانون القومية 2018″، وتوصية الكنيست للحكومة بمنع قيام دولة فلسطينية قبل بضعة أشهر.. "حل الدولتين" وصفه سموتريتش بـ"وهم الدولتين"، أما جدعون ساعر، فرأى في قيام دولة فلسطينية انتحارا لإسرائيل.

في الشق المتعلق بإسرائيل الكبرى، بما هي دولة اليهود بين النهر والبحر، لا تُبقي تل أبيب مجالا للشك، بأنها ماضية في تجسيد هذا "الحلم" على الأرض، أفعالها لا تتبع أقوالها، بل تستبقها. حرب الإبادة والتطهير العرقي في غزة، ومساعي التهجير القسري، والبحث عن دول/حواضن للمشردين الفلسطينيين الجدد، تجري على قدم وساق.

في الضفة، لا يبدو الوضع مختلفا من حيث أهداف السياسة الإسرائيلية، ربما الاختلاف في درجة استخدام القوة المفرطة. تهويد القدس يجري على قدم وساق، وآخر فصول هذه العملية ما يجري في العيزرية والقرى البدوية، وقرار بناء 3401 وحدة سكنية في منطقة "E1″، لإتمام شطر الضفة إلى شطرين منفصلين، عمليات تصفية المخيمات تسير بتدرج منهجي منظم.

ومخطط تهجير الفلسطينيين يستند إلى الضغط العسكري- الأمني، والخنق المالي والاقتصادي، وسياسات الفصل العنصري المعمول بها ضد مختلف المناطق والتجمعات الفلسطينية، والهدف النهائي: احتلال وضم أكبر مساحة من الأرض، وطرد أكبر عدد من السكان.

فيما السلطة، التي قدمت كل أوراق الاعتماد اللازمة للحفاظ على بقائها، وتأهلها للقيام بدور ما، تجد نفسها عرضة للتآكل وفقدان الهيبة والمكانة، ما دام أن المطلوب هو القضاء على "حلم الفلسطينيين بدولة"، حتى وإن كانت مقزّمة وعلى مقاس سلطة حكم ذاتي، لا سلطة لها.

لبنان وسوريا ثانيا

على أن الشق الثاني من مشروع "إسرائيل الكبرى"، يكتسي معاني متعددة، منها ما هو جيوسياسي- أمني، ومنها ما هو جيواقتصادي، والأول يتصدر سلم أولويات إسرائيل في ظل تفشي الفاشية والتطرف الديني- القومي.

وهو في طوره الأول، يمتد إلى سوريا ولبنان، بدءا ببسط السيادة الإسرائيلية على الجولان المحتل، والتوسع في احتلال مساحات جديدة من الأرض السورية بعد الثامن من ديسمبر/كانون الأول، وبالأخص المناطق ذات القيمة الإستراتيجية: قمم جبل الشيخ، ومساقط المياه في حوض اليرموك، وتوسيع المجال الحيوي الأمني والإستراتيجي، وصولا لأطراف دمشق، والترويج لـ"حلف الأقليات"، وبسط الحماية على الدروز والأكراد، والحديث عن "ممر داود" الذي يصل إلى شرق الفرات، ويمتد على امتداد حدود الأردن الشمالية، وحدود العراق الشرقية.

واستكمال ما كانت قد بدأته في حربها على لبنان، من خلال احتلال مناطق جديدة "خمسة مرتفعات"، وتوسيع المنطقة الأمنية إلى شمالي الليطاني، والتلويح بخطة عسكرية (حال تجدد الحرب) باجتياح لبنان من جهة جبل الشيخ والقنيطرة، وصولا للبقاع الغربي، وفصل مناطق نفوذ حزب الله عن بعضها البعض.

هنا نفتح قوسين، لنشير إلى أمرين اثنين:

  • الأول؛ أن إسرائيل الكبرى تتمدد شمالا بالسيطرة المباشرة على أراضٍ جديدة، وتهجير سكانها ومنعهم من العودة لقراهم المدمرة.
  • والثاني؛ توسيع نطاق السيطرة الأمنية الإستراتيجية، دون نشر قوات على الأرض، بالاعتماد على تفوقها الجوي الكاسح، وخلق أحزمة أمنية في عمق هذه البلدان، أقله في مرحلة أولى، وربما توطئة لمراحل تمدُد وتوسع وانتشار لاحقة.

أدوات متغيرة وهدف واحد

بهذا المعنى، الجيوسياسي- الأمني، إسرائيل الكبرى، كمشروع، تجري عمليات ترجمتها على قدم وساق، وفي الأماكن التي تستسهل إسرائيل ضربها والوصول إليها. أما بقية ساحات وميادين استهدافها، فمتروكة لظروف مواتية، وربما باستخدام أدوات ضغط مغايرة، وهنا ستتكئ تل أبيب على واشنطن بصورة أوضح واعتمادية أكبر.