بقلم /مروان قبلان
كاتب وباحث سورى
أثار ما سمّي مؤتمر "وحدة الموقف لمكوّنات شمال سورية وشرقها"، والذي دعت إليه السبت الماضي (9 أغسطس/ آب الجاري) في الحسكة "الإدارة الذاتية لشمال شرق سورية"، وهي الجناح الخدمي والإداري لقوات سوريا الديمقراطية (قسد)، جدلاً كبيراً بين السوريين. وقد قرأته الإدارة الجديدة في دمشق بأنه تحدٍّ كبير، وتصعيد خطير، بعدما جمع المؤتمر تقريباً كل خصومها، ما دعاها إلى إلغاء اجتماع كان مقرّراً عقده في باريس مع قيادة "قسد"، لمتابعة التفاوض حول تنفيذ اتفاق العاشر من مارس (الماضي)، والذي ينص على إدماج الأخيرة في مؤسّسات الدولة السورية الجديدة.
دمشق محقّة في ردّة فعلها القوية على مؤتمر الحسكة، ولإدارة أحمد الشرع أن تقلق، لأن المؤتمر، وإن أُعدّ على عجل، قد يشكل نواة لتحالف سياسي – عسكري، لا ينبغي الاستهانة به، وخصوصاً أن أطرافاً خارجية تشجّع عليه وتدفع إليه (ليست إسرائيل فقط)، أملاً إما في إسقاط الإدارة الجديدة، وإذا تعذّر ذلك فالتقسيم إذاً، أو العودة إلى الحرب الأهلية. وقد دفع ذلك نشطاء عديدين قريبين من إدارة دمشق إلى الحديث عن نشوء "تحالف أقليات" يسعى إلى إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، وهي مخاوف قد تكون واقعية، فهناك كثيرون تضرّروا جرّاء سقوط النظام السابق، وربما بدأوا بتنظيم صفوفهم وتنسيق جهودهم، في ضوء ما يروْنه ضعفاً اعترى سلطة دمشق، نتيجة سوء إدارة أزمة السويداء. لكن هذا لا يكفي لفهم مؤتمر الحسكة ومعانيه، بل يحتاج الأمر إلى طرح الأسئلة الأكثر جوهرية: كيف وصلنا أصلاً إلى هذه النقطة، ولماذا اجتمع هؤلاء في المقام الأول، وكيف سمحنا بنشوء هذا التحالف، ومن المسؤول عن ذلك، وأين تتّجه الأمور، وخصوصاً أن التذمر والانتقاد لممارسات السلطة الجديدة لم يعد مقتصراً على "الأقليات"، بل امتد ليشمل فئاتٍ لا يستهان بها من الأكثرية السورية، ولماذا بدّدت هذه السلطة الرصيد الذي حازته، في صفوفها، لحظة إسقاط النظام؟
لم يكن المرء يحتاج ملكاتٍ، أو قدراتٍ تحليليةً من نوع خاص، حتى يدرك أن المسار المتّبع منذ ديسمبر/ كانون الأول الماضي سوف يوصلنا حتماً إلى حيث نقف اليوم، فمنذ شهور ونحن نحذّر من أن الإدارة الجديدة لن تستطيع حكم سورية بالطريقة التي تفعل، وأنها، في حقيقة الأمر، تناقض جوهر مصالحها، فهي عندما تقوم بالإقصاء، وتضييق قاعدة حكمها، وخنق السياسة في المجتمع، وتبنّي خطابٍ يعمّق الانقسام الطائفي، وعدم السيطرة على ممارسات عناصرها على الأرض، إنما تكثر خصومها، تحشُرهم في زاوية، وتدفعهم إلى التكافل والتضامن ضدها. هذه ألف باء الممارسة السياسية، ومع الاستمرار في هذا النهج لن يحتاج خصوم السلطة الجديدة، قطعاً، التآمر عليها، أو التخطيط للنيْل منها، فهي تكفيهم، في حقيقة الأمر، مؤونة ذلك.
بدلاً من الحسكة، كان ينبغي لمؤتمر "وحدة الموقف" أن يُعقد في دمشق بدلاً من "مؤتمر النصر"، أو حتى كجزء منه، مباشرة بعد سقوط النظام، بدعوة الإدارة الجديدة وتنظيمها وإشرافها، وبمشاركة واسعة من فئات المجتمع السوري كافة (المهزوم فيه قبل المنتصر)، للاتفاق على كيفية إعادة بناء الدولة، شكلها، نظام الحكم فيها، والنموذج الاقتصادي الذي يرتضيه السوريون، ويحقّق تطلعاتهم. هكذا تُبنى الدول، وهكذا يتصرّف المنتصر، الذي يبتغي جمع الناس حوله، حكمهم بالتراضي، كفّ يد التدخلات الأجنبية، التحرّر من الماضي والتطلّع إلى المستقبل، وتحقيق السلم المجتمعي بعد أعوام من الصراع المرير.
الآن وقد صرنا هنا، لا يجدُر التعامل مع مؤتمر الحسكة والتداعيات المترتّبة عليه، كما درجت العادة، بتوعّد المشاركين فيه بالويل والثبور وعظائم الأمور، ولا بالاستنفار والتخوين والتلويح باستخدام القوة، بل بمراجعة المسار الذي انطلق قبل ثمانية شهور، وبات ينقلنا من خطأ إلى خطأ أكبر. وهذا لا يكون أيضاً بتشكيل مزيدٍ من لجان التحقيق في المصائب التي تباغتنا بين فينةٍ وأخرى، بل في منع تفجّر المصيبة، في المقام الأول. تواجه سورية اليوم تهديداً وجودياً في ظل الانقسام الذي يتعمّق بين مكوّناتها الاجتماعية، وتقتضي مسؤوليتنا، وانتماؤنا، عرباً وسوريين، أن نمنع، إزاء ذلك، السلطة الجديدة من الفشل في إدارة شؤون البلاد، لأن فشلها يعني تفكّك سورية وانهيارها، وأن نحمي هذه السلطة من نفسها، أيضاً، حتى نعبر معاً إلى برّ الأمان، لأن ما يحصل ببساطة لا يعدو كونه نبوءات تحقّق نفسها (self-fulfilling prophecies) من خلال ارتكاب الأخطاء، والإصرار عليها، وأيضاً من خلال عداوات لا نفتأ نخلق مزيداً منها بيننا.