في خطوة تعكس توجهاً متصاعداً لبيع الأصول العامة وتحويلها إلى مشروعات تجارية مغلقة، قررت حكومة الانقلاب إعادة طرح الأراضي الشاغرة على ضفاف النيل في القاهرة الكبرى، خاصة في محافظتي الجيزة والقليوبية، أمام المستثمرين من القطاع الخاص. القرار جاء بعد سحب سلطة وزارة الري في الإشراف على هذه الأراضي، ومنحها للشركة الوطنية لحماية الشواطئ والمسطحات المائية التابعة للجيش، إلى جانب نقل ملكية الأراضي السياحية والفندقية إلى شركات تابعة لصندوق مصر السيادي.
الخطوة، التي ناقشها رئيس حكومة الانقلاب مصطفى مدبولي في اجتماع موسع الأحد، استهدفت حصر وتقييم جميع المساحات غير المستغلة على كورنيش النيل، تمهيداً لطرحها كفرص استثمارية "جاهزة"، في إطار ما تصفه الحكومة بـ"تعظيم العائد من أصول الدولة". لكن المراقبين يرونها امتداداً لسياسة نقل الأصول العامة إلى أيدي الجيش أو الصندوق السيادي، تمهيداً لخصخصتها أو استثمارها في مشروعات ترفيهية وتجارية عالية الربحية، لا تخدم إلا شرائح محدودة.
من المساحات الخضراء إلى كافيهات ومولات
على مدى العامين الماضيين، شهدت مناطق واسعة من كورنيش النيل عمليات تجريف وردم لحدائق تاريخية وأجزاء من النهر، لتحويلها إلى تجمعات مطاعم وكافيهات مؤجرة لشركات خاصة، كثير منها يديرها ضباط سابقون. حي الزمالك كان مثالاً صارخاً، إذ قُطعت حدائقه القديمة لتفسح المجال لمواقف سيارات ومطاعم مطلة على النيل، ما أثار غضب السكان وتقدمهم بشكاوى رسمية بلا جدوى.
كما شمل التوجه بيع أراضي الشركة المصرية لتجارة الأدوية (40 ألف م² شمالي القاهرة) المطلة على مشروع "ممشى أهل مصر"، لتحويلها إلى أبراج سكنية فاخرة، مع نقل نشاط الشركة إلى مناطق أخرى.
ممشى أهل مصر.. مشروع سياحي أم إقصاء اجتماعي؟
مشروع "ممشى أهل مصر" الذي دُشنت مرحلته الأولى في 2022، جاء على حساب أصحاب المراكب النيلية الصغيرة، الذين فقدوا مصدر رزقهم، وعلى حساب حق المواطنين في الوصول الحر للنيل. نصف الممشى أُغلق لصالح المطاعم، وفرضت رسوم دخول، في مخالفة للمادة الدستورية التي تحظر التعدي على حرمة النهر.
البعد الاستراتيجي لبيع الأراضي
محللون يرون أن بيع هذه الأراضي الشاغرة، خاصة السياحية والفندقية، ونقلها إلى صندوق مصر السيادي، ليس مجرد استثمار، بل إعادة هيكلة لملكية الأصول العامة بعيداً عن الرقابة البرلمانية والمحاسبية، إذ يتمتع الصندوق بسلطات بيع أو تأجير هذه الأصول لشركاء محليين أو أجانب بشروط غير معلنة. هذه الخطوة توفر سيولة سريعة للدولة، لكنها في الوقت نفسه تعني فقدان أصول استراتيجية لا يمكن تعويضها، خصوصاً أن الأراضي النيلية تعد من أغلى وأندر الأصول في البلاد.
كما أن منح الجيش سلطة مباشرة على ضفاف النيل يكرّس دوره كلاعب اقتصادي مسيطر، ويغلق الباب أمام أي استثمار لا يمر عبر قنواته، بينما يحوّل واجهة مصر المائية إلى فضاءات نخبوية مغلقة، بدلاً من كونها متنفساً عاماً للمواطنين.