في مشهد سياسي عبثي يختزل حال العالم العربي، يتجدد الجدل حول منصب الأمين العام لجامعة الدول العربية، التي فقدت بريقها ودورها منذ سنوات طويلة، وتحولت إلى كيان صوري لا يتجاوز صوته بيانات الشجب المتأخر والإدانة الباهتة، إن وُجدت. والسؤال الذي يطرح نفسه: لماذا يتصارع نظام المنقلب السفيه عبد الفتاح السيسي مع كفيله الإقليمي السابق، الراعي الأول لانقلابه العسكري على الرئيس الشهيد الدكتور محمد مرسي، على منصب أمين عام مؤسسة لم تعد تمثل شيئًا فعليًا في وجدان الشعوب أو موازين السياسة؟
منذ أن تولى أحمد أبو الغيط المنصب، تحولت الجامعة إلى مجرد منصة تعكس وجهة نظر السلطة المصرية، حتى بدا وكأن الأمين العام موظف علاقات عامة في نظام الانقلاب. وقد جاءت تسريبات لقاءاته المهينة مع مسؤولين إسرائيليين، وعلى رأسهم وزيرة الخارجية السابقة تسيبي ليفني، لتؤكد عجزه الأخلاقي قبل السياسي، وتفضح ما آل إليه حال الكيان العربي الجامع.
ومع اقتراب انتهاء ولاية أبو الغيط في مارس المقبل، بدأت مصر تمهّد لترشيح شخصية أخرى من النظام الحاكم – رئيس حكومة الانقلاب الحالي مصطفى مدبولي – وكأنها تؤكد استمرار احتكارها للمقعد الذي شغله مصريون منذ التأسيس، باستثناء المرحلة التونسية في أعقاب اتفاقية كامب ديفيد. لكن هذه المرة، تجد القاهرة نفسها في مواجهة طموحات سعودية وخليجية متزايدة، تسعى لنقل المقر إلى الرياض وكسر "العرف غير المكتوب" بأن يكون الأمين العام دومًا من بلد المقر.
هل انتهى دور الجامعة فعليًا؟
لم تكن حرب غزة المستمرة منذ أكثر من 600 يوم سوى أحدث المشاهد التي كشفت غياب الجامعة العربية عن القضايا المصيرية. فلم تجتمع إلا بعد أشهر على الإبادة الجماعية التي يتعرض لها أكثر من مليوني فلسطيني في القطاع، ولم تصدر عنها سوى بيانات خجولة لا تليق بحجم الجريمة. نفس الغياب شهده السودان واليمن وليبيا وسوريا، بينما كانت الجامعة حاضرة فقط حين كان المطلوب إصدار غطاء عربي للتدخل الخارجي، كما حدث في العراق 1990 أو ليبيا 2011.
أمام هذا الانهيار الوظيفي، يطرح البعض خيارين: إما إغلاق هذه المؤسسة التي استُهلكت رمزيًا وفعليًا، أو الشروع في إصلاح هيكلي شامل يبدأ من تعديل الميثاق، ويمر عبر تداول المنصب بشكل دوري، ويصل إلى تمكينها من أدوات فاعلة في حل النزاعات، وتفعيل آليات العمل المشترك الحقيقي.
السيسي والسعودية: صراع رمزي على خرابة سياسية
لا يخفى على أحد أن التوتر بين القاهرة والرياض هو جزء من مشهد إقليمي يتبدّل فيه ميزان القوة، حيث تتقدم السعودية والإمارات كلاعبين مركزيين، فيما تتراجع مصر الغارقة في أزماتها الاقتصادية والتبعية السياسية. وقد أثار غياب السيسي عن القمة الخليجية الأمريكية الأخيرة، ولقاؤه غير المتوقع مع مسؤول إيراني رفيع، تساؤلات عن مدى استقلالية القرار المصري، ما فُسر خليجيًا على أنه خيانة سياسية من القاهرة.
من هنا يبدو الصراع على منصب الأمين العام للجامعة وكأنه معركة على من يملك شرعية تمثيل "العروبة الرسمية"، لا على إعادة بعث مؤسسة ميتة. فسواء أكان مدبولي المصري أو الجبير السعودي أو مرشح آخر، فإن طبيعة المنصب لم تعد تهم الجماهير بقدر ما تهم الأنظمة التي ترى فيه أداة لتعزيز نفوذها لا أكثر.
الجامعة: من الأمل إلى الغياب الكامل
منظمة نشأت برعاية بريطانية في أربعينيات القرن الماضي، وجدت نفسها بعد عقود في موقع العجز والتبعية. ومع تسارع التطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي، والتخلي عن الملفات الكبرى، تحولت الجامعة إلى مؤسسة بلا وزن سياسي، في الوقت الذي تتعالى فيه الأصوات المطالِبة بإصلاحها أو التخلص منها نهائيًا.
ربما كان الدكتور عصام عبد الشافي محقًا حين قال إن وجود الكيان – ولو رمزيًا – أفضل من غيابه، لكن الواقع يشير إلى أن هذا الكيان صار أقرب إلى أداة في يد أنظمة فاقدة للشرعية، أكثر منه وعاءً لتجسيد إرادة الشعوب.
سجال بلا فائدة
السجال الدائر بين أنظمة فاقدة للمصداقية على مؤسسة فقدت معناها، ليس سوى تعبير عن أزمة أعمق: غياب المشروع العربي الحقيقي، وتراجع الفعل الجماعي، وارتفاع وتيرة التبعية للقوى الدولية، التي لم تعد بحاجة إلا إلى واجهة عربية تغطي مشاريعها في المنطقة.
والجامعة العربية – كما هي اليوم – تلعب هذا الدور بكفاءة مؤسفة.