في وقت سابق، روّجت وسائل إعلام مقربة من المؤسسة العسكرية في مصر، خلال حكم الرئيس الشهيد الدكتور محمد مرسي، لما قالت إنه "نية لبيع قناة السويس إلى قطر". لكن السنوات التي تلت الانقلاب العسكري في 2013 كشفت عن توجهات أكثر خطورة، شملت منح امتيازات طويلة الأمد لأطراف أجنبية، من بينها روسيا، الإمارات، الصين، والولايات المتحدة، في محيط القناة الاستراتيجية، وسط مخاوف من تسريب نُسب للمنقلب السفيه عبد الفتاح السيسي تحدث فيه عن "منح امتياز للقناة لشركة إسرائيلية لمدة 99 سنة مقابل تريليون دولار".
منطقة امتياز واسعة… وتحصين قانوني
تمتد المنطقة الاقتصادية لقناة السويس على مساحة 455 كم²، وتضم 6 موانئ بحرية و4 مناطق صناعية، وتدار بموجب قانون أصدره السيسي في 2014 (القانون رقم 32)، يحصن الاتفاقيات الأجنبية من الطعن أمام القضاء المصري، ما أثار اتهامات بمنع أي رقابة أو مساءلة قانونية على الصفقات التي تُبرم داخل هذه المنطقة.
امتياز روسي غامض بعد زيارة السيسي لموسكو
في مايو الجاري، وبعد أيام من زيارة السيسي إلى روسيا، وقّعت القاهرة اتفاقية تمنح شركات روسية حق الانتفاع بأراضٍ داخل المنطقة الاقتصادية لإنشاء منطقة صناعية، دون مقابل مالي لمدة ثلاث سنوات، وببنود غامضة، ما دفع خبراء إلى التحذير من أن الاتفاق قد يكون "مجاملة سياسية" للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في ظل تغييب السيسي عن قمة أمريكية خليجية بالرياض.
سيطرة إماراتية متزايدة
في 4 مايو، أعلنت مجموعة موانئ أبوظبي الإماراتية عن اتفاقية لتطوير منطقة صناعية ولوجستية بمحيط قناة السويس، على مساحة 20 كم²، وامتياز لمدة 50 عامًا قابلة للتجديد. تحصل مصر بموجب الاتفاق على 15% من الإيرادات فقط، مع تحملها كامل تكلفة البنية التحتية، ومنح الشركة الإماراتية إعفاءات ضريبية.
وخلال عامي 2023 و2024، وقّعت أبوظبي اتفاقيات لتشغيل وإدارة موانئ الغردقة وسفاجا وشرم الشيخ والعين السخنة، بعضها يمتد حتى 30 عامًا، ما اعتبره مراقبون "سيطرة ممنهجة على البوابة الشرقية لمصر".
النفوذ الأمريكي يزاحم الصين
وسط تصاعد النفوذ الصيني في منطقة البحر الأحمر، وقّعت شركة "بلاك روك" الأمريكية اتفاقية لشراء 90% من استثمارات شركة صينية تملك أصولًا حول قناة بنما وبعض الموانئ المصرية، بما في ذلك محطة حاويات العين السخنة، وامتيازات تشغيل موانئ الإسكندرية والدخيلة. هذا التطور يُفسَّر على أنه رد أمريكي مباشر على تحركات بكين في مشروع "الحزام والطريق".
تسريب السيسي و"الامتياز الإسرائيلي"
أعاد تسريب صوتي نُسب إلى السيسي، يتحدث فيه عن فكرة منح قناة السويس لشركة إسرائيلية مقابل تريليون دولار لمدة 99 سنة، جدلًا كبيرًا في الشارع المصري، خاصة مع سياق تصاعد الأزمة الاقتصادية الحالية، والحاجة الماسة للنقد الأجنبي لتمويل مشروعات العاصمة الإدارية والعلمين الجديدة
.
.
انقلاب على سياسة التأميم؟
يرى الدكتور عبد التواب بركات، مستشار وزارة التموين الأسبق، أن ما يجري يمثل "انقلابًا على سياسة تأميم القناة" التي كانت سببًا في العدوان الثلاثي على مصر عام 1956. ويؤكد أن منح الأراضي وحقوق الانتفاع بهذا الشكل يهدد الأمن القومي ويعيد مشهد الامتيازات الأجنبية الذي أدى للاحتلال البريطاني في القرن الـ19.
ويضيف بركات: "القوانين التي تحصّن هذه العقود أعادت نظام المحاكم القنصلية، الذي أُلغي عام 1949، وتؤسس لهيمنة اقتصادية أجنبية تهدد السيادة المصرية".
إيرادات القناة تتراجع.. وسط مخاوف من التفريط
رغم وعود النظام بتحقيق إيرادات تتجاوز 100 مليار دولار سنويًا بعد افتتاح التفريعة الجديدة للقناة في 2015، تراجعت الإيرادات العام الماضي بنسبة 61%، لتبلغ 3.9 مليارات دولار، بسبب عزوف شركات شحن عالمية عن المرور بالقناة بعد تصاعد هجمات الحوثيين في البحر الأحمر.
صندوق وقابضة: تفكيك أصول القناة؟
أثار تأسيس صندوق خاص بأصول قناة السويس عام 2022، ثم شركة "قناة السويس القابضة" في 2023، مخاوف من اتجاه فعلي لتفكيك أصول الهيئة وخصخصتها تدريجيًا. ويرى مراقبون أن ما يحدث يمثل "بابًا خلفيًا لبيع أصول القناة".
مستقبل القناة في خطر
بين تمدد النفوذ الروسي، والاستحواذ الإماراتي، والمنافسة الأمريكية-الصينية، يرى مراقبون أن قناة السويس لم تعد مجرد ممر مائي سيادي، بل تحولت إلى ساحة صراع إقليمي ودولي، في ظل غياب الشفافية والمساءلة، وتحولها إلى مصدر تمويل لمشروعات النظام بعيدًا عن مصالح المصريين الذين حفروا هذا الشريان بأيديهم.