ملهاة انتخابية بينما غزة تحترق

- ‎فيمقالات

من سخريات السياسة المصرية أن النظام يشغل نفسه والمصريين معه بانتخابات هزلية هندسها على مقاسه، بينما النيران تمسك بملابسه من الحدود الشرقية، والمقصود هنا تلك الضربات الجديدة التي يوجهها جيش الاحتلال للآمنين في جنوب غزة وصولا إلى رفح الفلسطينية وحتى رفح المصرية (التي أصبحت وفقا لخرائط جيش الاحتلال أرض معارك)، مقررا غلق معبر رفح، ومنع دخول أي شاحنات إغاثة من خلاله استجابة لتعليمات إسرائيلية رغم أنه معبر مصري تماما لا سيادة لغير مصر عليه.

الانتخابات المقصودة هي الانتخابات الرئاسية التي انطلقت في السفارات والقنصليات المصرية في الخارج منذ الجمعة وتنتهي اليوم الأحد (3 كانون الأول/ ديسمبر 2023)، لتلحقها الانتخابات في الداخل بعد أسبوع، وهي عملية هزلية لا تحمل من الانتخابات إلا اسمها، ولا من صناديق الاقتراع إلا رسمها.

هي ملهاة بكل المقاييس تحاول إلهاء المصريين عن آلامهم المعيشية الداخلية مع التصاعد الجنوني للأسعار، والتراجع الكبير لقيمة الجنيه، والصعود الصاروخي للمديونيات الخارجية التي حل موعد سداد بعض أقساطها مع تعثر الحكومة في هذا السداد، وتحاول إلهاء المصريين عما يحدث على حدودهم الشرقية في قطاع غزة الذي كان يوما تحت الإدارة المصرية (منذ العام 1949 وحتى هزيمة 1967)، ويرتبط الكثير من أهله بعلاقات مصاهرة مع المصريين.

المحاولة في الحالتين فاشلة إذ تظل الأوضاع المعيشية الصعبة هي الهم الأكبر للمصريين في الداخل، كما يظل العدوان على غزة هو الهم الأكبر لهم في الخارج، وهم يتسمرون أمام شاشات الفضائيات لمتابعة تطورات الحرب وكلمات وبيانات المتحدثين العسكريين، ويكثفون جهدهم لدعم غزة ومقاومتها من خلال حملات المقاطعة للشركات الداعمة للعدوان، ومن خلال حملات جمع التبرعات وتسيير قوافل الإغاثة التي لم تتمكن من الدخول إلا خلال فترة الهدنة المؤقتة.

أصوات كثيرة دعت النظام المصري لإلغاء تلك الانتخابات، ودعت المرشحين الشكليين للانسحاب، وتوفير مصروفات العملية الانتخابية فيما يفيد البلاد والعباد، والاكتفاء بتمديد فترة حكم السيسي، لكن النظام حريص على إكمال هذه الملهاة حتى النهاية، ليواصل محاولاته في إلهاء الشعب عن همومه الحقيقية، وليدعي حصوله على تفويض شعبي جديد للبقاء في مقعد الرئاسة الذي وصل إليه ابتداء على ظهر مدرعة وليس على ظهر الشعب.

هي انتخابات تثير السخرية لا الاهتمام، ستكون المقاطعة الواسعة هي سمتها الرئيسية رغم كل جهود الحشد والتعبئة ترغيبا وترهيبا، وسيتكرر فيها مظهر اللجان الخاوية إلا من بعض الموظفين والموظفات والعمال الذين تجبرهم جهات عملهم على المشاركة.

نحن أمام حاكم متغلب، تعهد بأنه لن يسمح لأي منافس حقيقي بالاقتراب من كرسي الرئاسة (مؤتمر حكاية وطن 19 كانون الثاني/ يناير 2018)، ونفذ تهديده بالفعل منذ انتخابات 2014 عبر إبعاده للمرشح المحتمل الفريق أحمد شفيق إلى الإمارات، ثم كرر هذا المسلك وبفظاظة في انتخابات 2018 مع شفيق نفسه مجددا، كما حبس الفريق سامي عنان، رئيس أركان الجيش الأسبق الذي أعلن اعتزامه الترشح أيضا، وتم حبس الضابط العقيد احمد قنصوة بسبب إبداء رغبته في الترشح، وبدلا من كل ذلك استعان في تلك الانتخابات بمرشح ديكوري من أنصاره، أعلن أنه سيمنح صوته للسيسي لأنه الأجدر بالموقع منه، كما سبق للسيسي أن أهان المرشح المنافس له في 2014، حمدين صباحي، بوضعه في المرتبة الثالثة بعد الأصوات الباطلة في نتيجة الانتخابات، رغم أن صباحي حصل على 4 ملايين صوت في انتخابات 2012 الحرة.

وفي هذه المرة رسم النظام حدود اللعبة، ومن يُسمح له بالمشاركة فيها، وحصة كل مرشح من الأصوات. وقد كشف موقع “عربي21” هذه الخطة مبكرا، وأكدت الأيام صدقها حتى الآن، حيث اقتصرت قائمة المرشحين على 3 شخصيات ضد السيسي شكلا، ولكنهم معه موضوعا، وجميعهم ينتمي لمعسكر 30 يونيو، مع عدم السماح أساسا لأي شخص من خارج هذا المعسكر بالترشح، بل تم استبعاد أحد المنتمين لمعسكر 30 يونيو، النائب أحمد طنطاوي، كونه جاء من خارج الإطار المتفق عليه، ولأنه بدا كمرشح جاد لا ينتظر دعم السلطة، أو رضاها، بل قدم نفسه كمنافس حقيقي للسيسي، ونجح في بناء حملة انتخابية غلب عليها الطابع الشبابي، وضمت عددا من الوجوه والرموز السياسية والنخبوية المتنوعة، وتمكنت من صناعة حالة سياسية افتقدتها مصر طيلة السنوات العشر الماضية، وتحركت لجمع توكيلات شعبية من مختلف المحافظات، ولكن السلطات حالت دون ذلك باستخدام أساليب غير قانونية، ولم تكتف بذلك بل أحالت طنطاوي وحملته إلى محاكمة جنائية بتهمة تزوير أوراق رسمية تمهيدا لإصدار حكم يحرمه من ممارسة العمل السياسي مستقبلا، وهو ما فعله نظام مبارك من قبل مع منافسه الشاب الدكتور أيمن نور في عام 2005.

رفض النظام السماح لمنافسين حقيقيين بخوض الانتخابات هو دليل ضعف وليس دليل قوة، فالحاكم القوي صاحب الإنجازات يحبذ المنافسة الشريفة، ليجدد شرعيته، لكن الحاكم الضعيف يخشى على نفسه من أي مرشح مغمور طالما ترشح من خارج الإطار المحدد، كما يخشى وجود رقابة حقيقية دولية، أو حتى محلية على الانتخابات، ويكتفي برقابة قضائية شكلية، أو حتى منظمات حقوقية هزلية. وهذا الحاكم الضعيف هو الذي منع المصريين من التظاهر دعما لأشقائهم في غزة خشية أن تنقلب ضده، وهو نفسه الذي سمح لسلطات الاحتلال الإسرائيلي أن تكون صاحبة الكلمة العليا في معبر رفح، وأن تمرغ هيبة مصر بالتراب، بينما هي ذات السلطات الإسرائيلية -وفي ظل حكم نتنياهو نفسه- التي خشت مواجهة مصر في 2012 حين هددها الرئيس مرسي -رحمه الله- أنه لن يترك غزة وحدها، وحين أرسل رئيس وزرائه إلى غزة تحت القصف فأوقفه، وفتح معبر رفح للمساعدات طيلة الوقت دونما انتظار لإذن إسرائيلي أو أمريكي.

حالة الاحتقان الشعبي تتصاعد في مصر لأسباب اقتصادية أساسا، وكان من الممكن أن تمثل الانتخابات فرصة للتغيير السلمي، أو حتى لخفض هذا الاحتقان لو توفرت نوايا مخلصة لذلك، ولو جرت وفق قواعد الشفافية والنزاهة الكافية، لكن إصرار النظام على استمرار احتكاره للسلطة عبر انتخابات هزلية جديدة هو صب للزيت على النار، والتي حين تشتعل فإنها ستحرق أولا من أشعلها

…………..

نقلا عن “عربي 21”