في أسوأ ارتداد للأزمة الاقتصادية التي تحياها مصر، أوضح خبراء ومختصون ودراسات علمية أن الصحة العقلية والذهنية والنفسية للمصريين باتت في خطر، مع تفاقم الأزمات المالية والاقتصادية التي تضرب الأسرة المصرية، على وقع أزمات التضخم وانهيار العملة المصرية وتداعيات السياسات الحكومية الضاغطة على حياة المصريين.
وتعيش مصر أزمة اقتصادية وسط نقص حاد في احتياطي العملة الصعبة، وارتفاع التضخم، وفقدان الجنيه لأكثر من نصف قيمته مقابل الدولار خلال عام واحد.
ووصل معدل التضخم السنوي في مصر إلى 40% خلال أغسطس الماضي، وفق ما أظهرت الأرقام الرسمية، ، وهو مستوى قياسي فيما تعاني البلاد من أزمة اقتصادية خانقة.
وأفاد الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء، بارتفاع سنوي بنسبة 71.9 % في أسعار المواد الغذائية، و15.2% بالنسبة لأسعار النقل، و23.6 %لأسعار الملابس.
تلك الأرقام الكاشفة لحقيقة الأزمة المتفاقمة بمصر، هددت استقرار وحياة ملايين الأسر المصرية، من محدودي الدخل، ووصل الأمر إلى الطبقة المتوسطة، التي سحبت كل مدخراتها، للتوافق مع حجم الارتفاعات القياسية بالأسعار.
كما تزايدت حالات الطلاق والتفكك الأُسري، إثر عدم القدرة على توفير مقتضيات الحياة.
قضم الطبقة الوسطى
وقد دفعت الأزمة الاقتصادية الطبقة الوسطى لزيادة الإنفاق الاستهلاكي وسحب مدخراتهم من البنوك وشراء سيارة أو منزل، لأن الأموال باتت بلا قيمة، وفق تحقيق استقصائي لقناة الحرة الأمريكية.
وذكر التحقيق أنه في ظل ما تمر به مصر من تدهور اقتصادي والذي أثر بشكل مباشر على الاحتياجات الأساسية للطبقة الوسطى، رصد عدد من خبراء علم الاجتماع وعلم النفس اتجاهات للإنفاق الاستهلاكي بشكل لا يتناسب مع طبيعة الدخل والأزمة.
حيث ربط خبراء النفس والاجتماع الصحة العقلية بطريقة تعامل البشر مع المال، مؤكدين أن الأزمة الاقتصادية، التي حدثت بوتيرة سريعة في مصر، أثرت سلبا على السلامة النفسية والعقلية للمواطنين، وبالتالي طرق إنفاقهم مؤكدين أن عدم الأمان المادي يؤدي إلى الهوس في الإنفاق.
وقال استشاري الطب النفسي، نبيل خيري: “إذا كان الشخص يشعر بالإحباط أو الاكتئاب أو الخلل النفسي، بسبب شعوره بعدم الأمان المادي، فقد يفتقر إلى الدافع لإدارة أمواله بشكل عملي وصحيح، وقد لا يبدو أن الأمر يستحق المحاولة”.
مضيفا: “قد يمنحك الإنفاق إحساسا جيدا لفترة وجيزة، لذلك قد تبالغ في الإنفاق حتى تشعر بالتحسن، وقد تتخذ قرارات مالية متهورة عندما تعاني من هذا الهوس”.
كما أن الصحة العقلية تؤثر على قدرة الشخص على العمل أو الدراسة أو إيجاد بدائل وحلول، وبالتالي فقد يؤدي ذلك إلى تقليل الدخل بشكل أكبر.
وأوضح أن التأثير النفسي السلبي لعدم الشعور بالأمان المادي قد يدفع الشخص لتجنب الاطلاع على أمور متعلقة بأمواله، مثل فتح الفواتير أو التحقق من حسابك المصرفي، لأنه قد يحاول تجنب التفكير في المال تماما، وهذا ينتهي الحال به في نهاية الأمر إلى السقوط في فخ الديون والإفلاس.
الصحة العقلية في خطر
وأكد أن تواجد مشكلة في الصحة العقلية قد يؤثر على طريقة تفكير الأشخاص بشكل منضبط في الإنفاق والاستهلاك، لذلك ينتهي بهم الأمر إلى دفع المزيد من المال ليشعر بأي متع صغيرة، لكنه سيستيقظ في اليوم التالي وهو يشعر بمشاعر شديدة من الذنب والقلق والانزعاج.
عدم الأمان
وقالت أستاذة علم الاجتماع بالجامعة الأميركية في القاهرة، نادية سعد الدين: إن “مشاعر مثل القلق والحزن والغضب المرتبطة بعدم الأمان المادي والتحديات التي تنشأ عنه، يؤدي إلى خلل في السلوكيات والتصرفات الاجتماعية والتي قد تظهر بشكل عكسي في طرق الإنفاق”.
وأضافت أن المجتمعات الصحية تعتمد على الطبقة المتوسطة في الادخار من أجل التطور التعليمي والاجتماعي، لكن مع فقدان الأمان الاجتماعي والمادي، ينقلب الأمر بصورة عكسية وتصبح هذه الطبقة أكثر ميلا للمبالغة في الإنفاق الاستهلاكي على الكماليات لتشعر بأنها مرئية، بدلا من الادخار من أجل ضمان مستقبل اجتماعي وتعليمي أفضل.
وتابعت أن الأزمة الاقتصادية في مصر بدأت بالفعل في تدمير الطبقة المتوسطة، والمعايير المنطقية في ترتيب الأولويات، وهذا يدمر الأسرة لأنه يؤثر سلبا على الأطفال أيضا.
وترى أستاذ الاجتماع أن مخاوف الآباء بشأن المستقبل وتوفير المال يصل بصورة مباشرة وسريعة للأطفال، ويزيد من عدم الثقة الأبناء في أن البالغين سينجحون في الواقع في حل المشكلة.
وتحدثت سعدالدين عن تجربتها مع طالبة مدرسة ثانوية تتلقى العلاج لديها، والتي قالت لها: إن “عائلتي لا تقول أي شيء، لكن يمكنك أن تقرأ ذلك الخوف والقلق في وجوههم أو إذا لم يكن لديهم المال، فأنا أعلم على الفور”.
ولا يتعلق الأمر حقا بما يقولونه، بل يتعلق فقط بالطريقة التي يتصرفون بها عندما ينفد المال لديهم وتسألهم: لماذا لم تذهب إلى المتجر؟، ولا يجيبون أو يحاولون فقط إيجاد طرق أخرى.
وتشير أستاذة الاجتماع إلى المشاكل المالية يمكن أن تؤثر على الحياة الاجتماعية والعلاقات البشرية، إذ قد يشعر الشخص بالوحدة أو العزلة، أو أنه لا تستطيع القيام بالأشياء التي تريدها، وبالتالي قد يرتد الأمر بشكل عكسي من خلال سعيه لحضور أي تجمعات ومناسبات اجتماعية بشكل مبالغ فيه، وبالتالي المزيد من الإنفاق والاستهلاك غير المحسوب.
عنف مجتمعي وانهيار اجتماعي وأخلاقي
وقال أستاذ علم الاجتماع، سليم محمد سلام: إن “ما عانته الطبقة المتوسطة خلال الفترة الأخيرة من أزمات اقتصادية أثرت فيها، دفعها إما إلى الهبوط إلى طبقة أقل على نحو غير متسارع، أو التمسك بطبقة أعلى ولو حتى بشكل ظاهري”.
وأضاف أن بعض أفراد الطبقة المتوسطة تحاول التمسك بطبقة عليا، وإن لم تستطع فستنتقد وتهاجم سلوكيات الطبقة التي تعلوها بجميع تفاصيلها، مثلما نرى سنويا في أزمة المصايف، وما يعرف بـ “الساحل الطيب والشرير”، لكن ذلك الانتقاد لن يستمر في حال وصلت تلك الطبقة المتوسطة إلى الطبقات المرتفعة.
ويحذر أستاذ علم الاجتماع أن ذلك الأمر سيكون له تأثير كبير ، يتمثل في عنف مجتمعي وانهيار اجتماعي وأخلاقي كما نرى الآن.
وأشار سلام إلى أن مفهوم “الكمباوند” اتسع في مصر ليشمل الشواطئ والأندية وبعض الأماكن التي كانت متنزهات لكثير من الأسر، وتفاقم الأمر ليصل إلى مجالات التعليم والسكن والأندية والمطاعم والملابس.
واعتبر أن المجتمع المصري بات منقسما بشكل ملحوظ، لكن ستجد أسرا من الطبقة المتوسطة تحاول اللحاق بهذه المظاهر، ولو من خلال العمل طوال اليوم وتجاهل أطفالهم .
وأوضح سلام أن تلك الفجوة سيكون لها تأثير خطير في المستقبل ودلالاتها تظهر من خلال الأحاديث على مواقع التواصل الاجتماعي من هجوم وسخرية متبادلة ما بين الطبقات المختلفة، وهذا سيكون له تأثير سلبي كبير على المجتمع وتفككه، لأن الأمر يتحول إلى حقد طبقي.
ووفق تقديرات خبراء، فإن تزايد الازمة المالية، سيزيد من تعقيد الظروف المعيشية للمواطن المصري ، وهو ما قد يزيد من أعداد المرضى النفسيين الذين وصل عددهم لنحو 25 مليون مريض نفسي وفق إحصاءات 2022، فيما وصلت حالات الطلاق إلى حالة كل دقيقتين بمصر، وهو معدل عالٍ جدا يهدد استقرار المجتمع.
علاوة على زيادة عدد حالات الانتحار والقتل والبلطجة والسرقة بالإكراه وتعمق العنف داخل المجتمع المصري بصورة كبيرة.