في يوليو عام 2015 ألقى رئيس النظام السوري بشار الأسد خطابا على وقع عملياته العسكرية التي كانت في أوجها، آنذاك، قائلا إن "الوطن لمن يدافع عنه ويحميه، والشعب الذي لا يدافع عن وطنه لا يستحق أن يكون له وطن".
"الوطن" بالمنظور العام في تلك العبارة، بحسب ما أشار إليه حديث الأسد هو سوريا، أما "الشعب الذي لا يدافع عنه" فهم ملايين السوريين الذين خرجوا ضده أولا في عام 2011 بحراك سلمي، ومن ثم حراك مسلح، أفضى إلى عمليات عسكرية طالت كل سوريا.
تحويل مناطق إلى رماد
ريف العاصمة دمشق إحدى تلك المناطق، التي شهدت عمليات حربية لسنوات، أفضت أخيرا بين عامي 2017 و2018 إلى فرض السيطرة العسكرية الكاملة لقوات النظام السوري، والمليشيات المساندة له، وتهجير مئات آلاف المدنيين قسرا، تاركين وراءهم منازل وأراضٍ وممتلكات.
الآن، وتحت ستار إزالة الألغام وبناء سوريا الجديدة، يهدم نظام الأسد وقواته الأحياء التي كانت تسيطر عليها المعارضة في ضواحي دمشق، والتي قصفها بالصواريخ بدعم روسيا واحتلها، زاعما أنها لتطوير وبناء مباني استثمارية جديدة وزراعة الحدائق.
وقبل دخول قوات النظام إليها كانت ملامح هذه الممتلكات قد تغيرت كليا على وقع القصف الجوي والبري الذي نفذته بشتى أنواع الأسلحة.
وتؤكد المعارضة السورية وتحقيق موسع لصحيفة "الجارديان" البريطانية 23 مارس 2022 أنه بعد فترة سيطرة قوات بشار تحول ريف دمشق شيئا فشيئا إلى رماد، بفعل عمليات هدم وتجريف وتفجيرات من نوع آخر، تحت زعم بناء سوريا الجديدة.
التحقيق الذي أجرته الصحيفة بالشراكة مع "لايت هاوس ريبورتس" ووحدة الصحافة الاستقصائية السورية (سراج) وراديو روزنا المحلي، حلل عمليات هدم شبه كامل لحي القابون الدمشقي، بشكل لا يمكن التعرف عليه بعد، في وقت يعيش فيه سكانه السابقون إما نازحين أو لاجئين في الخارج.
كشف أن عمليات الهدم تتم تحت ستار إزالة الألغام لإفساح المجال أمام سوريا الجديدة، من تطويرات المباني الجديدة الراقية والحدائق.
ويستعرض التحقيق الاستقصائي، الذي جُمعت معلوماته على مدار عام كامل، كيف يسعى النظام لفرض تركيبة سكانية تناسب مخططاته التنظيمية، التي بدأ بإصدارها بعد عام 2017.
وقد كشف تحليل مفصل لصور الأقمار الصناعية، ومقاطع فيديو، وتغريدات من وزارة الدفاع السورية أظهرت تعرض نصف حي القابون تقريبا للهدم، بما في ذلك مبان شاهقة.
واعتبرت منظمة "هيومن رايتس ووتش" أن عمليات الهدم في القابون جريمة حرب محتملة، وعمليات غير قانونية ولا يوجد سبب عسكري كاف لهدم البيوت، وأن القانون الدولي يحظر التدمير الجائر للممتلكات.
وقالت الباحثة سارا كيالي لفريق التحقيق إنهم "يهدمون الأراضي الخاصة دون سابق إنذار أو تعويض مناسب لسكان القابون، وهذا يمنع الأهالي من العودة إلى هذه المناطق".
وخلال الفترة بين سبتمبر وديسمبر 2018، أعلن النظام السوري عن 334 عملية تدمير، لعقارات ومحلات متروكة تابعة لمعارضين، تحت مسمى عمليات التطهير ما بعد الاشتباكات.
لكن تقارير دولية، أكدت أن النظام يستخدم ذرائع مثل تطهير المباني المتضررة من القنابل، وإزالة الأنفاق والمتفجرات والذخائر التابعة لـلمنظمات الإرهابية، لكن الهدف الحقيقي وراء عمليات مماثلة، هو تعسير عودة المعارضين الذين اضطروا إلى مغادرة البلاد، وتعزيز سيطرة النظام على المناطق كلها.
انتقام من الربيع العربي
عام 2012 وبعد سنة واحدة من اندلاع الربيع العربي وقمع النظام له بالسلاح، أصدر الرئيس السوري بشار الأسد مرسوما حمل الرقم 66 لتطوير مناطق المخالفات والعشوائيات في دمشق، مثل القابون وجوبر وبرزة.
وقيل إن "القابون هو أحد الأحياء العشوائية الأولى التي تخطط حكومة النظام السوري لتفكيكها وإعادة بنائها، بموجب تشريعات ما بعد الصراع المثيرة للجدل، والتي تسمح للنظام بمصادرة الأراضي والشراكة مع مستثمرين من القطاع الخاص لتطويرها".
لكن التحقيق الذي قامت به المنظمات والصحف، بين أنه وبعد اكتمال عمليات هدم البيوت وتفجير المساكن والأبنية، أصبحت الأرض في وضعية جهوزية لتنفيذ مشاريع مختلفة بحسب رغبة النظام ، بينها أبراج سكنية وتجارية وخدمية، ومبان استثمارية.
وقد كشف مؤسس الوحدة السورية للصحافة الاستقصائية "سراج" محمد بسيكي أنه يجري هدم أحياء أخرى بخلاف حي القابون، مؤكدا أن القابون هو جزء من مخطط يشمل سوريا بالكامل، وليس دمشق فقط أو بعض الأحياء فيها".
من هذه المناطق أيضا حي جوبر الذي ما زال مغلقا أمام سكانه الأصليين، والذين انقسموا جراء العمليات العسكرية الأخيرة لقوات النظام السوري، ما بين نازحين ومهجرين.
وكان الحي شرقي دمشق قد شهد معارك عنيفة بين فصائل المعارضة وقوات النظام السوري، وتعرض فيها إلى القصف بمختلف أنواع الأسلحة، ما أدى إلى دمار واسع في أبنيته.
وتمكنت قوات النظام من بسط سيطرتها على جوبر، في أبريل 2018، بعد أن وقعت روسيا اتفاقية تسوية مع فصيل "فيلق الرحمن"، خرج بموجبها مقاتلو الغوطة الشرقية إلى الشمال السوري.
وتتم عمليات الهدم بغرض منح المناطق لمستثمرين وشركات مستمرة إلى الآن في حلب ودير الزور ومختلف المحافظات وبصورة مشتركة بين الجهات العسكرية ورجال الأعمال الذين سيمكنهم النظام من الاستيلاء على هذه الأراضي.
وتقول صحيفة الجارديان إن "ما يجري هو نوع من الانتقام لا علاقة له بما يدعيه النظام عن إعادة إعمار أو تطوير أو الحرص على إزالة إلغاء أنفاق كانت المقاومة الشعبية تستخدمها خلال قتال النظام لها".
وتنقل عن بعض سكان القابون قولهم إنه "الانتقام من سكان القابون والتأكد من عدم وجود شيء للعودة إليه ، إنها رسالة من النظام لشعب القابون أنه لا يوجد شيء لك هنا".
كما تنقل عن سكان وباحثين أن نظام بشار الأسد يقوم بإعادة هندسة المنطقة اجتماعيا بعد أن أصبحت معقلا للمعارضة خلال الحرب.
في السنوات الأربع الماضية، أعلن جيش الأسد عما يقرب من 1000 عملية هدم في جميع أنحاء سوريا في حسابه على تويتر، تمتد من درعا في الجنوب إلى حلب في الشمال، مبررا ذلك بدعوى إزالة العبوات الناسفة التي خلفتها الجماعات الإرهابية.
وكشف تحليل مئات الصور ومقاطع الفيديو ومنشورات وسائل التواصل الاجتماعي من القابون عن نمط من الانفجارات الكبيرة التي دمرت المباني بالكامل والكثير من المناطق المحيطة بها، والتي لا تتناسب مع الأهداف الإنسانية المعلنة، وبهدف استبداله بعقارات استثمارية ومن ثم استحالة عودة أهل المنطقة لها.
ورغم مرور أحد عشر عاما على بدء الحرب، يعيش معظم اللاجئين البالغ عددهم 6.6 مليون لاجئ في حالة من عدم الاستقرار في البلدان المجاورة دون أي احتمال لعودة آمنة.
وهناك 6.7 مليون نازح داخليا داخل سوريا في ظروف سيئة ويعتمدون على المساعدات الإنسانية.