تحكى أمٌّ شابة مأساة طفلتها الكبرى ذات العشرة أعوام مع وسائل التواصل الاجتماعى فتقول: تحت ضغط وإلحاح ابنتى، الفائقة دراسيًّا، اشترينا لها «الآيفون»، ورغم علمى أنا وزوجى بمخاطر امتلاك طفلة فى سنها لهذا الجهاز، فإننا كنا مطمئنين إلى حد كبير؛ حيث إنها «بنت مختلفة!»: بارَّة، مطيعة، تسبق سنها وعيًا وإدراكًا، كما اتفقت مع زوجى أن أتولى أنا رقابتها خصوصًا أننى خبيرة بـ«الميديا» ودراستى وعملى فى المجال ذاته..
وتستطرد الأم: لكن وقعت المفاجأة فى بداية العام الدراسى ومع أول اختبار شهرى؛ حيث رسبت ابنتنا بجدارة، وكانت كارثة عائلية؛ إذ كيف ترسب بعدما كانت الأولى على مدرستها السنة الماضية، كلُّ هذا وأنا لم أنتبه إلى اختلاء ابنتى بالجهاز لفترات طويلة، كما لم أنتبه إلى التغيرات التى طرأت عليها إثر امتلاكها «الآيفون» من: سرحان، لامبالاة، إهمال المذاكرة والنظافة الشخصية، الانطواء، العناد، كثرة الأسئلة حول الجنس والدين إلخ.
وهناك مئات القصص المشابهة، بل الأصعب من هذه القصة، مثل الفتى الصغير، ابن أحد الأصدقاء، الذى تنكَّر فى هيئة امرأة على إحدى المنصَّات وواعد شابًّا ثلاثينيًّا، وبالفعل استدرج الشاب إلى مكان قريب من بيته، ولما اقترب الخطر ووجد نفسه فى ورطة أبلغ والده، الذى تدخل فى اللحظات الأخيرة وحل المشكلة؛ محذرًا ابنه المراهق من تكرار تلك الفعلة الشنعاء.
وفى هذه السطور ندق جرس الإنذار للمرة العاشرة: راقبوا أبناءكم، لا تمنعوهم من الدخول على مواقع التواصل، ولكن لا تتركوهم نهبًا لإغراءاتها، ازرعوا فيهم الإيمان ورقابة الضمير، وكونوا قدوات طيبة لهم يصلح الله بكم حالهم.
لا ينكر أحدٌ مزايا هذه الوسائل، للصغار والكبار على السواء، فهى توسِّع مدارك الأطفال بمحتواها المفيد والمسلِّى، وهى نافذتهم إلى العالم وإدراك ما يجرى حولهم، كما تمكِّنهم من القدرة على التعبير والرغبة فى الاطلاع. هذا إن أُحسن استخدامها وتم توجيه النشء إلى طرق الإفادة منها، وإلا فإنها بيئة خطيرة، وسلاحٌ ذو حدين وما كنا نظنه فيها خيرًا صار شرًّا محضًا. ليلاحظ الآباء والأمهات أن الطفل فى دور التكوين يتأثر بشكل كبير بكل ما يمر به، ولم يعد خافيًا أن وسائل التواصل صارت مدهشة للكبار فما بالك بالصغير الذى لا يميز!
إن تواجد الطفل على هذه المواقع دون توجيه ورقابة قد يعرِّضه لصدمة نفسية ربما لازمته طوال حياته جرّاء تعرضه لمشهد عنف أو جنس، أو تعرضه للتنمر أو التحرش أو الاحتيال، بل إن هناك دراسات علمية تؤكد أن الإدمان على هذه الوسائل يعرِّض طفلًا على الأقل من بين ثمانية إلى الإصابة بالقلق أو التوتر أو الاكتئاب، فضلًا عن مشكلة اضطراب النوم، وهى مشكلة خطيرة بالنسبة للأطفال لارتباطها بالنمو العقلى والإدراكى، وقد اكتُشف أن تلك الاختلالات ناتجة ليس فقط عن الاستيقاظ لفترة طويلة ومغالبة النوم بسبب السهر داخل المواقع، بل يسببها أيضًا الأضواء المنبعثة من الأجهزة الذكية التى يحملها الأطفال والتى تؤثر على عدد من مراكز المخ.
قد يقول قائل إننا نمنع أبناءنا من الدخول على المواقع وتصفحها، وتعاملهم مع أجهزتهم مقتصر فقط على الألعاب. يقول المختصون: سيان هذه وتلك، فالخطر واحد، فالذى أُعطى جهازًا ذكيًّا لن يبقى دهرًا يتعامل مع الألعاب، ولو فعل ذلك سيُعيَّر من زملائه وربما نبذوه. أما الألعاب فلا تخلو من مخاطر أيضًا؛ ذلك أن الشركات التى صممتها فعلت ذلك من أجل الربح ولو على حساب البشر، ولا زلنا نسمع عن ضحايا لعبة «الحوت الأزرق» التى ينتحر لاعبها فى نهاية المباراة مع المنافس، وهذه الشركات أدرى بـ«سيكولوجية الأطفال» من غيرها، وتعلم ما يحبونه وما يكرهونه، وفى النهاية ما يهمها هو أن يدمن الطفل هذه اللعبة أو تلك (مثال: ببجى)؛ ومن ثم يهدر وقته، إضافة إلى أن كثيرًا منها مخالف لديننا وأعرافنا، وربما شكَّلت هُوية أطفالنا من جديد دون أن ندرى.
والشواهد كلها تؤكد أنه إن لم يكن هناك حزم وترشيد لتعامل الأطفال مع هذه الوسائل فسوف تنشأ أجيال هشة طرية معتلة، صحيًّا ونفسيًّا، رقيقة الدين مضطربة المشاعر والإدراكات مقطعة الصلات مع الآخرين؛ ما يستدعى جهدًا أكبر من الآباء والمربين يقوم فى جزء منه على المنع والحرمان، والصبر والاحتمال، والصرامة فى تنفيذ جداول المشاهدة والتوقف، والأهم: إنبات وازع الدين ورقابة الذات داخل نفوس الأطفال، فهى الأنفع والأجدى من ألف رقيب ورقيب ولو كان من بينهم الأبوان.