في الوقت الذي يحاكم فيه اليهود، بمساندة غربية، لمن ينكر ما حدث لهم في معسكرات اعتقال النازية الألمانية ثم حرقهم في أفران، وذلك ضمن عنوان عريض من الاتهام بـ"معاداة السامية" ولكن المؤرخ اليهودي آدم راز أكد وجود معسكرات اعتقال أقامتها "إسرائيل" باعقاب نكبة 1948، بحق الآلاف من فلسطينيي الداخل.
ففي محاضرة له قال إن هذه المعتقلات الصهيونية التي قامت بين 1948 و1949 في طول البلاد وعرضها بناء على وثائق أرشيفية "إسرائيلية" تتطابق مع مصادر فلسطينية.
ووصفها أنها "جيتوهات محاطة بأسلاك شائكة" أو "الكيج"، وأن هؤلاء الآلاف مدنيين لم يشتركوا في القتال، بل كانوا ممن بقوا بعد النكبة والتهجير، مستندا إلى مئات الملفات التي احتفظت بها (وزارة شؤون الأقليات) الصهيونية شكلتها وقتها وتولاها موسي شاريت وإن هناك مستندات أخرى توثق يوميات الاحتجاز، موجودة في “أرشيف الدولة” ووزارة الأمن الصهيونية.
وأضاف راز أن هناك محاولات جارية لإخفاء وفلترة هذه الوثائق، ليس لاعتبارات أمنية وإنما لأنها يمكن أن "تزعج الأذن اليهودية" لا سيما أنها تبعث تداعيات حول معسكرات التركيز النازية بحق اليهود.
ونوه إلى أن الكيان الصهيوني أقام جيتوهات في كل البلدات الفلسطينية المحتلة، وان تعبير "جيتو" كان من الصعب ابتلاعه في تلك الفترة بالنسبة للمحتلين، فقد تم استخدام تعبير آخر لوصف ما جرى مع الفلسطينيين، وهو نقل العرب إلى منطقة أمنية".
أسلاك وتعذيب
ونقل عن موشيه آريم رئيس إدارة شؤون الأقليات لإعادة التأهيل، احتجاجه المكتوب بشأن إعادة تسكين الفلسطينيين في حي العجمي، الذي كان محاطا من جميع الجهات باليهود.
ومما كتب: "العجمي سيحاط بسور من الأسلاك الشائكة، ويتحول إلى جيتو محاصر، نحن نزرع البذور السامة في قلوب العرب، كيف نصنع جيتو محاطا بأسلاك شائكة ممنوعا من الاتصال بالبحر؟ هل هذا يمكن أن يكون تصورا سياسيا؟".
وأشار المؤرخ شهادة أخرى لموشيه شيرانك، الذي عمل حاكما عسكريا قبل لانيادو، يقول فيها "انتهكت إسرائيل شروط اتفاق الاستسلام الذي استولت بموجبه على البلدات الفلسطينية، والذي منح سكانها الفلسطينيين حق الحركة في المدينة”.
واسترشد راز بما كتبه إلياس خوري في بعض رواياته من أن البلدات الفسلطينية شهدت تجميع العرب في أحياء معينة وحدهم، وفرض عليهم حظر التجول. كما حدث الأمر نفسه في اللد والرملة ويافا وحيفا، مشيرا إلى عريضة كتبها مجموعة من الشخصيات الفلسطينية، وجهوها إلى بن جوريون، قالوا فيها إنه "تمت إهانة كبار السن والنساء والأطفال والشباب، وتم إجبارهم على الوقوف تحت الشمس الحارقة من دون ماء أو طعام، ومن دون أي سبب حقيقي يستوجب ذلك، سوى السخرية منهم وإذلالهم وانتهاك كرامتهم".
مذكرات سليمان أبو ستة
وكتب المهندس الفلسطيني سلمان أبو ستة ابن مدينة بئر السبع عن هذا الأمر وباسهاب وحتى سنة 1948وما بعدها كتبت صحيفة نيويورك تايمز، ونشرت دراسة في واحد من أعداد 2014، من النسخة الإنجليزية من مجلة الدراسات الفلسطينية – على ٥٠٠ صفحة تقريبا من تقارير اللجنة الدولية للصليب الأحمر خلال حرب ١٩٤٨، بعد رفع السرية عنها وإتاحتها للجمهور في عام ١٩٩٦ واكتشافها بالصدفة من قبل أحد المؤلفين في ١٩٩٩.
وتمكن مؤلفا الدراسة، بعد عقد من إعدادها، ومنهم أبو ستة من جمع شهادات ٢٢ مدنيا فلسطينيا كانوا قد اعتقلوا في تلك المعسكرات، من خلال تسجيلهما مقابلات مع بعض هؤلاء في عام ٢٠٠٢ وأخرى تم توثيقها من قبل باحثين آخرين خلال فترات مختلفة، كشفت "كيفية تمكّن إسرائيل من اعتقال آلاف المدنيين الفلسطينيين لتشغيلهم بالسخرة واستغلالها لهم لدعم اقتصاد الحرب لديها.
وقال إنه تم إنشاء ١٧ معسكرا بطرق غير رسمية، إضافة إلى المعسكرات الخمسة، وأضاف أبو ستة أن "العديد من الفلسطينيين المعتقلين سابقا ينظرون إلى إسرائيل كعدو غاشم، ولذلك فقد قللوا من أهمية عملهم في تلك المعسكرات مقارنة بالمأساة الكبرى للنكبة. غطّت النكبة على كل شيء".
بداية المعتقلات
وبدأ إنشاء معسكرات الاعتقال والتشغيل بعد الإعلان الأحادي الجانب عن دولة "إسرائيل" في مايو ١٩٤٨. وكان عدد الأسرى الفلسطينيين لدى الصهاينة منخفضا جدا قبل الإعلان، حيث اعتبر إستراتيجيو الصهيونية حينها أن أخذ السجناء سيكون بمثابة العبء في المراحل الأولى من التطهير العرقي.
وظهر أول معسكر في إجليل (حوالى ١٣ كيلومترا شمال شرق يافا)، على أنقاض القرية الفلسطينية إجليج القبلية المُفرغة من سكانها في أوائل نيسان ١٩٤٨. وقد غلبت عليه الخيم التي احتوت على المئات والمئات من المعتقلين المصنفين كأسرى حرب من قبل إسرائيل، وكان مسيجا بالأسوار الشائكة وأبراج المراقبة وبوابة تحت الحراسة.
وبعد إجليل، كان عتليت ثاني أكبر تلك المعتقلات ولديه القدرة على احتواء ما يصل إلى ٢٩٠٠ سجين، بينما وصلت السعة القصوى لصرفند إلى ١٨٠٠، ولتل ليتوينسكي قرب تل أبيب إلى ١٠٠٠ سجين.
وأضاف أن المعسكرات الأربعة كانت تحت إدارة ضباط سابقين بريطانيين انشقوا عن صفوفهم خلال انسحاب القوات البريطانية من فلسطين في أواسط مايو ١٩٤٨، وقد تشكل حراس المعسكرات وطاقمها الإداري من أعضاء سابقين في عصابتي إيرغون وشتيرن – المنظمتين الإرهابيتين حسب البريطانيين قبل الانسحاب. ووصل مجموع عدد الموظفين في المعسكرات «الرسمية» الأربعة إلى ٩٧٣ جنديا.
المخيم الخامس، يسمى "أم خالد"، أُسس كمعسكر تشغيل على موقع قرية أخرى أخليت من السكان قرب المستوطنة الإسرائيلية نتانيا. وبالرغم من حيازته رقما رسميا في السجلات وإمكانية احتوائه لـ ١٥٠٠ سجين، لم يتم الاعتراف به كمعتقل رسمي.
وكشف أبو ستة أن السلطات اليهودية عاملت جميع العرب بين سن ١٦ و٥٥ كمقاتلين واعتقلتهم كأسرى حرب.
وأظهر السجلات الصهيونية التي تستشهد بها الدراسة، أن الغالبية العظمى من المعتقلين في معسكرات أسرى الحرب يصنّفون كمدنيين فلسطينيين، أي ٨٢٪ من الـ٥٩٥٠ معتقلا، في حين أن الفلسطينيين بشكل عام (مدنيين وعسكريين) يشكلون ٨٥٪".
انتهاكات ممنهجة
وأشار أبو ستة إلى أن الحراس من العصابات الصهيونية ارتكبوا انتهاكات منهجية كانت منتشرة في المعسكرات، وتحمّل وزرها الفلسطينيون من القرويين والمزارعين والطبقات الدنيا في أغلب الأحيان. حسب الدراسة، ذلك لأن السجناء المتعلمين يعرفون حقوقهم، وكانت لديهم الثقة لجدال وتحدي خاطفيهم.
الفلسطينيون الأقل حظا تعرّضوا لأعمال العنف التي شملت الإعدام التعسفي والتعذيب، مع انعدام إمكانية الاعتراض. وغالبا ما كان الدافع للإعدام هو محاولات الهروب، الحقيقية أو التي يدعيها الحراس.
وبحلول نهاية ١٩٤٩، بدأ إطلاق سراح المعتقلين الفلسطينيين تدريجيا بعد الضغط الشديد من قبل اللجنة الدولية للصليب الأحمر ومنظمات أخرى. لكن عمليات إطلاق السراح كانت محدودة النطاق ومتعلّقة بقضايا معينة. وتم إطلاق أسرى الحرب من الجيوش العربية في عمليات تبادل، لكن الفلسطينيين طردوا عبر خط الهدنة من دون طعام أو لوازم أو مأوى، وطلب منهم أن يسيروا إلى غير رجعة. وقد بقي معظم المعتقلين داخل المعسكرات حتى عام ١٩٥٥، وحت لفي وقته كانت تلك الإجراءات تخالف القانون الدولي والاتفاقيات السارية آنذاك فحسب، مثل قواعد لاهاي ١٩٠٧ واتفاقيات جنيف لعام ١٩٢٩.
