منذ أن أعلنت الحكومة السودانية منتصف ديسمبر الجاري، الاتفاق مع إثيوبيا علي استئناف المفاوضات حول سد النهضة، بعد مقاطعة الخرطوم جلسات التفاوض بسبب ما اعتبرته اعتمادا علي "منهج قديم" لن يجدي، ومطالبة بإعطاء دور أكبر للخبراء للمساهمة في حل الأزمة، لا تتحلحل أزمة سد النهضة رغم أن إثيوبيا ماضية في الملء الثاني للسد الأكبر لديها والذي من المرتقب أن يحرم مصر والسودان من حصتهما التاريخية في مياه النيل.
وأمس الاثنين، تواصل المنقلب عبد الفتاح السيسي، ورئيس جمهورية جنوب إفريقيا "سيريل رامافوزا" الرئيس الحالي للاتحاد الإفريقي، وتناول الاتصال مطالبات بـ"تحديد قواعد ملء وتشغيل السد". وقال "رامافوزا"، بحسب تصريحات المتحدث باسم السيسي إنه "سيعمل خلال الفترة المقبلة على الوصول إلى اتفاق عادل ومتوازن بشأن هذه القضية الحيوية".
المثير للدهشة أنه سبق فشل رعاية الاتحاد الإفريقي لمفاوضات في أغسطس الماضي، وأعلنت إثيوبيا عن انتهاء مرحلة الملء الأول للسد، وذلك بعد رفضها أوائل 2020 مخرجات مباحثات ثلاثية رعتها واشنطن.
والغريب فعليا هو الصمت المصري طوال هذا الوقت إلا بتصريحات مستهلكة رغم توقف قطار المفاوضات في نوفمبر الماضي، بعد إعلان القاهرة عدم وجود اتفاق حول منهجية استكمالها، كما أعلن السودان قبل أيام أنه لن يقبل الملء الثاني للسد دون اتفاق، ملمحا بتدويل القضية كحل أخير حال عدم التوصل لاتفاق “ملزم وعادل”.
تلميحات "آبي أحمد"
يأتي ذلك هذا في الوقت الذي يلمح رئيس الوزراء الاثيوبي آبي أحمد إلى دور شركاء التفاوض في ملف سد النهضة (مصر والسودان) في مشكلاته الداخلية وسقوطها في الصراع.
وقال آبي أحمد: "يروجون في كثير من القنوات العالمية بأن إثيوبيا لن تستمر كدوله سوف تسقط لن تستطيع الخروج من المأزق الذي دخلت فيه في محاولة يائسة لوقف بناء سد النهضة. إنه مهما قلتم ومهما فعلتم لن تستطيعوا أن تهزموا إثيوبيا والاثيوبيين"!
وأضاف: "بسبب مشروع سد النهضة أصبحت تدبر لنا المكائد والفتن من جميع الاتجاهات، زعزعة السلام في إثيوبيا، وزرع الفتنة بين الأشقاء في المنطقة ويروجون في كثير من القنوات العالمية بأن إثيوبيا لن تستمر كدوله سوف تسقط لن تستطيع في محاولة يائسة لوقف بناء سد النهضة الإثيوبي الكبير".
تسويف إثيوبيا
وفي دراسة نشرها المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بالدوحة بعنوان "أزمة سد النهضة: ما الذي يعرقل المسار التفاوضي؟" قال الباحث عبده موسى: إن استراتيجية إثيوبيا منذ انطلاق التفاوض رسميا بينها وبين بلدَي المصب في 2013 تتلخص في "التسويف" والسعي لشراء الوقت؛ تمهيدا لفرض الأمر الواقع مع اكتمال بناء السد.
وأضاف أن إستراتيجية مصر للتعامل مع الأزمة راوحت بين المساعي الحميدة، ومحاولة الوصول إلي تسوية مع إثيوبيا، قبل أن يصير وجود السد وتحكمه في مياه النيل الأزرق حقيقة واقعة، وبين تدويل الأزمة، واستدعاء أطراف مؤثرة للتدخل فيها، وصولا إلي التلويح بإمكان اللجوء إلي استخدام القوة العسكرية بصفتها ورقة ضغط، أو خيارا أخيرا لقطع الطريق علي إثيوبيا قبل تحقيق غرضها.
ووصف موقف السودان بالمربك وقال: "السودان يتداخل في الأزمة بصفته طرفا أصيلا، بوصفه بلد مصب، لكن الملاحظ عبر جولات التفاوض في خلال السنوات السبع المنصرمة أنه ظل يحاول الموازنة بين مصر وإثيوبيا، انطلاقا من تصور مختلف لمصالحه، وسعي للنأي عن التنازع الحاد بين البلدين مؤثرا ألا يتحمل تبعات لا يراها ضرورية؛ فمصالح السودان تجعله يري بعين أن للسد مخاطره التي لا بد من الحسم بشأنها، وبالعين الأخرى أن له منافع تنموية جليّة.
وعن دور الأزمات الداخلية قال الباحث إن الأزمات الداخلية تستدعي الأزمة وتغذيها، فقد رافق تصاعد الخلاف حول سد النهضة حقيقة هي أن السلطة في مصر وإثيوبيا والسودان ظهرت مستنزفة بأزماتها السياسية والتحديات التي كانت تعصف بوجودها.
وأضاف الوضع يزداد سوءا مع "أمننة خطاب الأزمة" ودفعه من جانب دوائر أمنية وعسكرية في البلدان الثلاثة، يهمها أن تجد بابا لإلهاء الجماهير عن نقد فشلها في إدارة الأوضاع الداخلية، عبر خطاب التهديد الخارجي.
خلاف مصري سوداني
وليس بخاف على المتابعين تصاعد أثر الخلاف السياسي بين مصر والسودان، عبر العقدين الماضيين، في قدرتهما علي تبني موقف مشترك، بصفتهما بلدَي مصب تربطهما مصلحة مشتركة في هذه القضية.
الوزير السابق في حقيبة الري محمد نصر علام كتب عبر حسابه على "فيسبوك" قائلا: إن "مصر استخدمت في طول فترة التفاوض أحدث النماذج العلمية وبعد مناقشات مستفيضة مع علماء البنك الدولي والولايات المتحدة الأمريكية وإثيوبيا بالتوصل الي قواعد للملء والتشغيل تحت مختلف الظروف المائية للنيل الأزرق. طبعا هناك كالعادة بعض التراجعات والمناوشات الإثيوبية.
وأضاف "علام" أن " الغريب أن هناك بعض التعليقات والافتكاسات السودانية بالرغم من أن المطالب المصرية تحقق المطالب السودانية خاصة فى سنوات ومواسم الجفاف".
وأوضح أن "مصر والسودان ترفضان المطلب الإثيوبي الخاص بإعادة النظر في توزيع الحصص المائية، ولكن هناك بعض الطروحات السودانية "صياغة" بخصوص المشاريع المستقبلية لأثيوبيا قد تضر بمصر والسودان".
وحذر "علام" من أن الصياغة المصرية المقترحة والتي تحقق مطالب الدولتين هي المطابقة للقانون الدولي، بأن أي مشاريع إثيوبية مستقبلية مسموح بها طالما لا تسبب أضرارا ملموسة بأي من الدولتين. ويجب الأخذ فى الاعتبار أن ملء سد النهضة سيكون علي حساب مخزون السد العالي، وأن الشعب المصري سيتحمل خسائر كثيرة من فقدان جزء ملموس من كهرباء السد العالي، وأن الشعب المصري بدون قواعد تصرفات سد النهضة تحت الظروف الهيدرولوجية المختلفة للنيل الأزرق تمثل الحد الأدنى لضمان الأمن المائي المصري وحياة شعبه، وأن أي جدال في هذا الشأن أثناء المفاوضات يمثل هجوما علي الأمن المائي المصري وتهديدا لحياة الشعب المصرى. وجدير بالإشارة أن للسودان الحق الكامل فى مناقشة الطرح المصري وأي تحفظات أخري ولكن من خلال اجتماعات الهيئة المشتركة.
آفاق للحل
وطرح الباحث عبده موسى في دراسته السالفة أن اتفاق المبادئ في 2015 غابت فيه المبادئ الحاسمة، والتصور المشترك لمفهوم "العدالة المائية".
وأضاف أن جانبا من المشكلة يتصل بمرجعية التفاوض وعدم اعتماد البلدان المتنازعة علي اتفاقية قانون الاستخدامات غير الملاحية للمجاري المائية الدولية الصادرة في 1997. لكن تظل هناك مبادئ مستلهمة من هذه الاتفاقية وما قبلها من أطر قانونية، ينبغي الدفع بها لتأطير العملية التفاوضية ومنع هذا التفاوت الحاد في تصور الصيغة الاتفاقية المقبولة.
وفي رؤية استخلصها قال: "يجب اعتماد معادلة لحساب الموارد المائية لعموم الحوض؛ فالحال أن الندرة تحوط بالموارد المائية في بلدي المصب، وبالخصوص في مصر التي تقع في فئة الحرمان المائي، وأي حساب لتقاسم المياه علي نحو عادل يجب ألّا يتم وفق تقدير تصرفات المياه الجارية في النهر وحدها، بل الأولي تضمين مجمل مصادر الموارد المائية وعلي رأسها احتساب الأمطار التي تصيب أراضي الحوض، فضلا عن الموارد الجوفية التي يمكن استغلالها.
واعتبر أن تبني الحساب الكلي لموارد المياه، بوصفه مدخلل توافقيا، يقلل من انعدام العدالة المائية، ويعزز الثقة والتعاون بين البلدان التي لا تتمتع بنسبة من الأمطار ذات قيمة تذكر، وتعتمد اعتمادا كليا علي النهر وحده، كمصر، وبين البلدان التي بها وفرة مطرية، وليست في حاجة شديدة إلي النهر، بينما غاياتها من المشروعات هي توليد الطاقة الكهرومائية، أو الاستخدام الزراعي المحدود، أو ضبط النهر للحد من الفيضانات.