نُخب خدعت المصريين بـ”الدستور” ثم خرست حين أطاح به الديكتاتور

- ‎فيتقارير

هل تعلم أن المصلين في مسجد “عين الحياة” بمنطقة دير الملاك كانوا يتأثرون بشكل بالغ بخطب الشيخ الراحل عبد الحميد كشك، وبعد انتهاء الخطبة يفسحون الطريق لجحافل الأمن لإلقاء القبض عليه؟!

هذه التجربة ملخص الواقع الذي يعيشه قطاع من الشعب المصري، وهو ما اتضح مؤخرا من “سدنة الدساتير” محاسيب النظام العسكري في مصر، الذي يهللون “عاش الملك” ثم ينفضون عنه حين يموت، فلا يكاد الحاكم يأمر بوضع دستور حتى تجد الأتباع يكبرون ويحمدون ويهللون ويتغزلون في عظمة وعبقرية هذا الدستور، وما ينقلب عليه بعد ذلك حتى تجدهم يلعنون اليوم الذي كتب فيه نفس الدستور، في مفارقة يبدو أنها لا تحدث “إلا في مصر”!.

نخب مزيفة

ومن بين الذين دافعوا عن دستور الانقلاب العسكري وقاموا بدور كبير لإقناع المصريين بهذا الانقلاب، ثم بدستوره، النخب العلمانية واليسارية والناصرية، والتي استماتت لإسباغ شرعية زائفة على الانقلاب العسكري، ثم خدعوا المصريين بأن هذا الدستور رائع، وجاء ليقضي على “الفاشية الدينية” التي سعى الإخوان إلى تكريسها.. في أكاذيب مضحكة حتى الثمالة.

حيث بالغ هؤلاء في التهويل للعظمة المزعومة للدستور الذي أقر بعد الانقلاب، وكان لا بد لها من أن وضع مواد تقنع الشعب المصري بالمشروع الوهمي الذي جاء به الانقلاب والبدء من خلال ذلك الدستور لـ”إنشاء الدولة المدنية الديمقراطية التي تتسع لكل فئات الشعب المصري”.

وبعد الترويج لمواد الدستور التي تؤسس للدولة المدنية المزعومة، ووضع مواد تنفي عن دولة الانقلاب العسكري الاستبداد، والمؤسس لحكم الفرد، دانت البلاد بالسيطرة لقائد الانقلاب العسكري من خلال مذبحة القرن في فض اعتصام ميدان رابعة العدوية وقتل آلاف المصريين على الهوية في الشوارع، وبدا قائد الانقلاب العسكري أكثر صراحة من حوارييه؛ حيث كشف عن نوايباه مبكران وأفصح عن نيته في تأسيس دولة الفرعون.

وبمجرد أن تم الانتهاء من مسرحية الاستفتاء على دستور الانقلاب، ودفاع ما يسمى التيار “المدني” عن دستور نظام الانقلاب العسكري الذي تم وضعه عام 2014، حتى كادوا أن يشبهوه بمحكم التنزيل؛ حيث بدأ مع أول انقلاب لعبد الفتاح السيسي نفسه على الدستور والهجوم عليه في تغيير رأيهم فورا في أهمية الدستور، وأصبح الدستور “ليس قرآنا”!

ليس قرآنا!

وبدأ الحديث عن الدستور يدور حول أهمية تعديل الدستور بطريقة مهنية ودقيقة من خلال مشرط جراح يعرف كيف يمرر هذا التعديل، ولا تدور حول رفض التعديل، أو الحنث به، ومن هنا بدأ دولة الانقلاب مبكرا في الترويج لهذا التعديل.

وكشفت مصادر برلمانية أن الإشكالية التي واجهها النظام، في فكرة تعديل الدستور من أجل استمرار السيسي في الحكم، هي فتح المدد الرئاسية أم زيادة المدة من أربع سنوات إلى ست سنوات.

وقالت مصادر إن نظام الانقلاب يعلم حالة الغضب والغليان التي تملأ صدور الشعب المصري، نتيجة انتشار الفقر، وارتفاع الأسعار، وهو ما أثر على شعبية السيسي، مؤكدا أن هناك حالة من الخوف أن يكون تعديل الدستور هو القشة التي قصمت ظهر البعير.

وكشفت المصادر عن أن هناك حالة من الجدل داخل النظام تلقي بظلالها على البرلمان، حول الخروج من المأزق.

على طريقة “تيران وصنافير”!

وقال الكاتب الصحفي وائل قنديل، إن تعديل الدستور الانقلابي ليس مجرد فكرة ملقاة في الفضاء السياسي، وإنما هو عملية بدأت بالفعل من خلال لجان مكلفة بتنفيذ أحلام وطموحات الجنرال، وأخطر ما في الأمر ليس اعتبار السيسي المصدر الرئيسي والوحيد للتشريع، وإنما إطلاق يده في التصرف بأرض مصر على طريقة “تيران وصنافير”.

وأكد “قنديل” أنه لا تنحصر خطورة استهداف الدستور الانقلابي في العبث بمواد، بما يتيح للسيسي أن يكون، بنصّ دستوره الجديد، المصدر الرئيسي والوحيد للتشريع، ولا في إعلان مصر دولة عسكرية بوليسية، لا مجال لتداول السلطة فيها إلا من خلال انقلابات عنيفة.. وإنما، وهذا هو الأخطر، إحداث انقلابٍ في المادة الخاصة بالمعاهدات الدولية، الأمر الذي يفتح الباب على مصراعيه أمام السيسي للعبث في خريطة مصر، بالتصرّف في أراضيها ومياهها، بيعًا وتنازلًا وتأجيرا.

وكشف ان هناك تسريبات بأن تعديل الدستور الانقلابي ليس مجرد فكرة ملقاةً في الفضاء السياسي، بقصد اختبار المواقف أو جس نبض الرأي العام، وإنما هو عملية بدأت بالفعل، قبل أن يركل السيسي كرة التعديلات، ولفت إلى أن أحلام الجنرال تتجه إلى المادة 151 من دستور 2012، والتي بقيت في دستور الانقلاب 2014، ومع تعديلٍ طفيف في صياغتها، لم يغير من مضمونها، وتقول “يمثل رئيس الجمهورية الدولة فى علاقاتها الخارجية، ويبرم المعاهدات، ويصدُق عليها بعد موافقة مجلس الشعب، وتكون لها قوة القانون بعد التصديق عليها، ونشرها وفقًا لأحكام الدستور.

وبالنسبة لمعاهدات الصلح، والتحالف، وجميع المعاهدات التي تتعلق بحقوق السيادة، تجب دعوة الناخبين إلى الاستفتاء عليها، ولا يتم التصديق عليها إلا بعد موافقة أغلبية الأصوات الصحيحة للمشاركين فى الاستفتاء. وفى جميع الأحوال، لا يجوز إبرام أية معاهدة تخالف أحكام الدستور، أو يترتب عليها الانتقاص من إقليم الدولة”.

وأوضح أن هذا النص الذي جرى العصف به في جريمة التنازل عن جزيرتي تيران وصنافير، في ظل غضبٍ شعبي عارم، حيث تمت عملية التنازل، أو البيع، أو التخلي، من دون استفتاء الشعب، وهو حقٌّ أصيل بنص الدستور، يبدو أنه في سبيله إلى الحذف والمحو، وفق المخطط له في كارثة التعديلات المقبلة، بحيث يختفي دور البرلمان، ويهدر حق التصويت الشعبي، وتصبح المسألة كلها رهنًا برغبة شخص واحد فقط، هو عبد الفتاح السيسي، بما يمنحه حرية التصرف في أراضي مصر، من دون حسيب أو رقيب.