انطلقت السفينة تشق عُباب السماء، سارت وسارت مؤملة الوصول في سلام وأمان، كان الطريق وعرا والموج عاتيا على أمهر الربان، انبرت الأيدي تعمل في نشاط، البعض يراقب حركة الموج بالنظارات المكبرة، وآخرون يملؤون المراجل بالوقود اللازم، والبعض يضبط الدفة ويتأكد من حركة الشراع وسلامة الصارية، كان العمل يتتابع ليلا ونهارا حتى أنساهم أوقات الراحة أو النوم راضين محتسبين، فالأمل كان كبيرا يدفعهم ويحفزهم حتي يسبقوا الأسطول الكبير، ولا يظلوا مجرد سفينة شراع عابرة تابعة لا تصنع مجدا، ولا تترك أثرًا..
ولأنه في أغلب الأمر يكون للأمل الكبير تحديات بحجمه أو تقترب، فقد ارتطمت السفينة بصخور ضخمة استقرت في الأعماق منذ القدم، وكأنها كانت شَركا في طريق السفنية حتى إذا ما نجحت في القيام والسير إلى تلك النقطة لم تتجاوزها وغرقت من أثر الارتطام وتبعات الصدام، ومع ذلك فلم تملك الصخور المختبئة أكثر من صناعة عدد من الفجوات في الهيكل الأشم، ومن ثم فقد انتبه البحارة بأن على كل منهم أن يغلق بكلتا يديه أو قدميه بل وبمجامع نفسه تلك الفرجة المنبجسة من تحته حتى لا تمر المياه عبرها فيغرق الجميع، وتتهاوى السفنية عن مأرب وصولها إلى اللحاق بالأسطول بل وتجاوزه حتى مقعد القيادة له ولغيره..
شعور متواتر سريع … بأن على كل فرد دور؛ فغرق الجميع رهن ليس بتخلي الجميع، ولكن يكفي أن يتخلى أحدهم عن ثغره فينفلت الماء من تحت يديه فيهلكوا، وتهلك السفينة ويضيع حلم قيادة الأسطول..
كان ما بقي من الطريق مازال طويلا، أمواج متلاطمة على السفينة أن تجتازها حتى تصل إلى مرفأها بأمان، ومن بعيد اتحد ضوء القمر مع ثغور السفينة فتولدت شرارات منيرة خافتة لطيفة أشعت بريقا على غير توقع، و كان معها أن أدرك البحارة أنهم بالخيار فإما أن يضيئوا بتلك الشرارات عتمة لياليهم، أو يتركوا الثغور كجحور خربة معتمة تتكاثر فيها الهموم وتتوالد فتصير لهبًا يَصلى به الكافة..
انحاز البحارة للخيار الأول، ولبث كل منهم على ثغره، يسد على الفشل طريق التسلل، ويتابع ما يكتنزه الثغر من معانٍ لؤلؤية تتمخض فتكشف عما بها لمن اطمئن بأن ثغورا هي من صنيعة الخصم في الأساس وعَلَما على التحدي والمحنة؛ مثلها تحوي شرارات ضوء منبعث..
كانت أضواء الثغر .. إيمان تليد، يتأصل في النفس كجبل شامخ ذي أوتاد ضخمة، يزيد حجم امتدادها في الأرض أضعافا مضاعفة لما يظهر منها على السطح .. فيثبت المتعجل والمرتاب، وتتدافع طاقات احتمال وجلد ..
والثغر يقظة وانتباه توقف صاحبها على الكنه الحقيقي للحياة والكون؛ فطنة لا تقف عند حد الثغر وما تحته من أذى متوقع، بل تطير بصاحب اليدين بعيدا فيتخذ له في وقت الرباط والمراقبة فسحة للتأمل تطير به في الآفاق ليتفقه منتبها لما حوله؛ يتعرف على القيمة والمبدأ ويصنع لهما مهادا يسريان فيه، بدلا من اللبث خلف أثمال السبات والكسل فتتفلت الأيام أمام ناظريه ولا يوقظه سوى شكاوى الهِرم والمرض وخيوط الشيب تتفشى في رأسه وتنذر بقرب الرحيل..
والثغر .. قلق متواصل لا يطمئن مع القلب فيقنع بقليل البذل أو بعض الجهد، بل تظل بداخله تلك الحالة الغير مكتفية من العطاء، فتدفع به نحو المزيد والمزيد، وتفتح أمام عينيه بصيرة الإدراك للمساحات المفقودة، والأبواب غير المُطرقة، فتنحى به بعيدا عن الرتابة أو النمطية في الأداء، وتنجو به عن العمل المتواضع سهل التوقع لمن يتربص ويترصد..
ومع استمرار القلق …
فالثغر واحة أمان .. ولوحة من الجمال والأنس .. تهدهد بحنو كل عابر كما الأم تضم طفلها وتمايله حتى تنبعث في نفسه مشاعر من يأوي إلى الظل الوارف حيث تتحد ذرات الندى الشذي العابرة في نسيم صحو منعش، مع قطرات البحر المتطايرة فتأخذ بتلابيب الفؤاد ليقطع العوائق سفرا في رحلة علوية تسبح معها النفس متعالية عن الهموم والعواصف، فتصير المخاطر العظام كما حبات الرمل المتطايرة والتي تتمنى عبثا هدم البنيان الضخم المرصوص..
والثغر كذلك .. أمل ومستقبل، حُلم لا تقف حدود الرؤيا فيه على حاضر ينشد بعض الشهيق، بل يصنع مدادًا لبصر جامح نحو فيض من الهواء العليل المستمر ينتشر يعبق كل الأجواء بلا صدد..
والثغر مقصد نحو خير ونماء .. يقاوم الغرق ويرقع في هيكل معتل، ناشدًا الوصول به إلى حيث يمتلك سبل إصلاحه، فيشيده بناءً عصيًا على الطرق عليه أو إحداث الندب فيه بعد ذلك فضلاً عن الفُرَج ..
والثغر يد وعين .. ، شعور لا ينفصل فيه الفرد عن فعل يديه اللتين لا ينبغي لهما التفلت أبدا، وفي الوقت نفسه يعلم أنه وكما له يدان، فله عينان يمكن له بهما أن يبصر أية مواقع للزلل فينبه الآخرين لها، ويعلم أنه وإن كان بيديه مسؤول عن ثغره، فبعينيه مسؤول عن الجميع .. أيضا تغيب مع العين المسؤولة تشققات النفس التي تأسر صاحبها وتجعله حبيسا لا يرى سوى ذاته همًا وغاية، يتجاوز ذلك في شموخ وأنفة من يدرك ببصيرة معنى الأسر الذي يحبس دونما قضبان، وسعيًا نحو منطق المجموع لا الأنا..
عرف فيه الفرد على كنه مهمته، ثم ينطلق فيطلق لتفكيره العنان، مقسمًا عليه ألا يعود له إلا بما يخيط به من جريد النخل ثوبا حريريا، وبما يحيل به كأس العلقم إلى شراب من عسل..
وأخيرا .. فها هو المرفأ قد لاح من قريب، وارتفع آذان إدبار الليل وبدء ساعات النهار المبهجة العطرة الندية، افترشت البسمات أعلى الوجنات المبللة من عرق الكفاح، واطمأنت الأعين التي سهدت ترقب ميلاد مثل هذا اليوم الجليل .. ومع كلٍ فقد استمر العمل واعتلاء الثغور .. فالمرفأ وإن لاح بيقين .. إلا أن السفينة مازالت تسير ولم تصل بعد، وركوب البحر كله خطر حتى وإن كنا على وشك الوصول ..